الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

أصعب اختبار للدولة

أصعب اختبار للدولة
أصعب اختبار للدولة




كتب - أحمد الرومي

 

عام 2008، وتحديدا يوم 6 إبريل، قامت مجموعات شبابية بتنظيم إضراب موسع فى مدينة المحلة الكبرى، رافعين مطالب اجتماعية وسياسية، تعاملت الدولة معها وقتها بشكل رخو، قبل الاضراب وبعده، وخرجت جموع الناس فى تلك المدينة تشارك فى الاضراب، إلى أن تحول فى لمح البصر إلى مشهد فوضاوى متكامل الاركان، وهناك سقطت أول لافتة لمبارك على الارض قبل أن يسقط هو شخصيًا فى ميدان التحرير بعدها بثلاث سنوات.
لم تتحقق الدولة فى ذلك الوقت من مكمن الخطر فى هذه العملية الاحتجاجية، وكيف أنها سريعا خرجت عن السيطرة، ولابد من تحركات متسارعة على المستوى السياسى باتخاذ إجراءات تعيد إلى الدولة هيبتها وتعيد إلى المواطن حقه، وتدرأ عن نفسها الخطر، لم يعر أحد لهذه الحادثة اهتمامًا، كان النظام وقتها يتحضر إلى توريث الصبى عرش والده، ولم تدرك أن ما حدث فى غزل المحلة لم يكن حدثا عابرا مر فى سلام بعد أن حوصر أمنيا، بل كان بروفة لثورة أطاحت النظام بأكمله.
وفائدة مراجعة حوادث التاريخ، حتى وإن كانت قريبة، أنها تعطى إضاءات لما هو آت، ومَن لم يدرك تفاصيل ما جرى ويختزنه فى عقله جيدا وهو يعالج ويبنى مستقبله، ستتكرر الاخطاء، وربما تتفاقم لتتحول إلى مآسٍ إذا ما تمادى الاهمال والرخاوة.
فالأسبوع الماضى، شب فى محافظة الشرقية حدث جلل، بعد أن قام أمناء الشرطة فى مديرية الأمن بتنظيم عمل احتجاجى، بدأ بوقفة ثم تطور إلى إضراب عن العمل، رافعين مطالب يمكن أن نسمها بكل أريحية (فئوية) ووصفها رئيس الوزراء بـ«تعجيزية»، ثم أغلقوا الشارع أمام المديرية ثم أغلقوا المديرية نفسها بعد أن اقتحموها، وخلت الشوارع من الأمناء، بعد احتشادهم فى الاضراب، ونصبوا الخيام، وخرج الامر عن سيطرة وزارة الداخلية، بعد أن رفض الامناء المعتصمون التواصل معها أو رفع مطالبهم لها، فارضون شروطهم على الدولة «لو أن هناك تفاوض سيكون مع مندوبين من رئاسة الجمهورية مباشرة»، ثم قبلوا بعد ذلك على مضض التفاوض مع اللواءين كمال الدالى، مساعد وزير الداخلية للامن العام، ومدحت المنشاوى، مساعد الوزير للأمن المركزى، ووافقوا على تعليق الاضراب مقابل وعد بتنفيذ خمسة من مطالبهم قبل حلول يوم 6 سبتمبر المقبل، وإلا عادوا الاضراب ولكن بشكل شامل فى جميع المحافظات هذه المرة بحسب قولهم.
بين اندلاع الاحتجاج (الذى استمر 48 ساعة) وتعليقه، قفزت كثير من التساؤلات فى رءوس المصريين، وهم يرون القانون يعطل لسبب غير معلوم أمام متجاوزين له، ولا توجد نية حتى الآن لإنفاذه.
فالدولة، منذ ما يزيد على سنة، قررت أنه لا مساحة ولا استجابة لاى اعتصامات أو احتجاجات فئوية، وأن على الجميع التماسك والصبر من أجل العبور بالبلد إلى مرحلة الاستقرار، ودعمت الدولة قراراتها بإنفاذ العمل بقانون التظاهر، الذى يقضى حاليا على أثره عدد من الشباب أحكاما بالسجن بتهم التظاهر والدعوة له دون تصريح، وقد قبل الجميع ذلك الإجراء، وإن كان مؤلما، ترسيخا لمبدأ قطعته الدولة على نفسها وهو (لا أحد فوق القانون).
لقد كان هذا المبدأ أول ما سأل عنه المواطن وهو يتابع باهتمام أزمة أمناء الشرطة: أين القانون؟ لماذا لم يطبق على هؤلاء؟ ولماذا تراجعت الدولة عن قرارها بعدم الانصياع للاحتجاجات الفئوية؟ وهل هؤلاء الامناء أكثر احتياجا و«عوزًا» من باقى المصريين؟
إن ضيق ذات اليد يحاصر كل البيوت، والحاجة تعتصر قطاعات عريضة من الشعب، لم يقدم أحد على الاحتجاج، حتى عندما قاسى الناس من ارتفاع أسعار اللحوم، نظموا حملة شعبية متحضرة، وقالوا «بلاها لحمة»، لم يحاصروا مجلس الوزراء لتقاعسه عن السيطرة على الاسعار، بل عالجوا الموضوع دون وضع الدولة فى أزمة.
أضف إلى ذلك أن مَن طُبّق عليهم قانون التظاهر، ويقضون الآن عقوبة السجن، لخرقه، لم يقتحم أحدهم مبنى رسمى - بدرجة مديرية أمن - ولم ينصبوا خيامًا فى الشوارع، ولم يحمل أحدهم سلاحه الميرى أثناء ممارسته الاحتجاج (السلمى) فى وجه الدولة، إذا لماذا هؤلاء فى السجون وأولئك فى السلطة؟ هل للقانون فى هذا البلد مكيالين؟
إن إرساء الدولة لقواعد ومبادئ من أجل استقرار الاوضاع هو أمر مقبول ويحترم، حتى وإن كان موجعا للبعض، لكن من غير المقبول أن يكون هناك أستثناءات لفئات بعينها، فالاستثناءات تجر الاستثناءات، وتفتح الباب على مصراعيه لان تقوم كل فئة بالتجرؤ وأخذ حقها بطريقتها الخاصة، وهنا مكمن الخطر.
ما حدث من أمناء الشرطة فى الشرقية، وطريقة تعاطى الحكومة معه، أمر فى منتهى الخطورة، ويعد اختباراً حقيقيا للدولة، يحتاج إلى مراجعة دقيقة لسياستها، ووضع يدها على نقاط الخلل الكامنة فى جهازها التنفيذى، والبحث عن آليات تمكنها من السيطرة على الاوضاع تكون قاعدتها إعمال القانون وتطبيقه على الجميع. هذا ما يجب عمله فورًا، أما إذا مررت الحكومة هذه الواقعة برخاوة، دون تحليل وإصلاح ومحاسبة، ستجنى تراخيها وإهمالها وبالًا، لا يعلم أحد أين سينتهى بنا، ومن لم يصدق فاليراجع أحداث المحلة وما جاء بعدها.