الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

جمال الغيطانى المـُنقب فى معين التراث المصرى

جمال الغيطانى المـُنقب فى معين التراث المصرى
جمال الغيطانى المـُنقب فى معين التراث المصرى




إعداد ـ خالد بيومى ورانيا هلال

برحيل الكاتب الكبير جمال الغيطانى تكون الثقافة المصرية قد فقدت أحد أهم كتابها ومثقفيها، فقد كان صاحب مشروع روائى فريد استلهم فيه التراث المصرى ليخلق عالمًا روائيًا عجيبًا يعد اليوم من أكثر التجارب الروائية نضجًا وقد لعب تأثره بصديقه وأستاذه الكاتب نجيب محفوظ دورا أساسيًا لبلوغه هذه المرحلة مع اطلاعه الموسوعى على الأدب القديم وساهم فى إحياء الكثير من النصوص العربية المنسية وإعادة اكتشاف الأدب العربى القديم بنظرة معاصرة جادة، جمع بين كتابة الرواية وممارسة الصحافة فأجاد وتميز فى كليهما، أسس صحيفة أخبار الأدب المصرية وكان أول رئيس تحرير لها.
ننشر اليوم عددا من شهادات معاصريه وتلامذته ومحبيه للحديث عن كتاباته وفكره.

عرودكى: كلما التقينا تبادلنا الآراء حول ما يمس التصوف
الكاتب والناقد والمترجم السورى بدر الدين عرودكى المدير الأسبق لمعهد العالم العربى فى باريس والذى كان صديقا مقربا قرابة نصف قرن  للغيطانى يقول: الغيطانى لم يكن سهلاً أن يترعرع كاتب شاب فى ظل نجيب محفوظ. ومع ذلك فقد استطاع جمال الغيطانى أن يشق طريقه الخاص بصحبة المعلم الكبير وفى ظله.
جمعتنى به منذ أن قدمت بدمشق فى أواخر ستينيات القرن الماضى مجموعته القصصية الأولى «أوراق شاب عاش منذ ألف عام»، صداقة قامت عبر الرسائل خلال عشر سنوات قبل أن تضمنا باريس ثم القاهرة كلما زار الأولى وزّرت الثانية.
كنت أشعر بسعادة غامرة لما كان يدور بيننا من حوار حول الكتابة الروائية كلما استقبلته (وقد تم ذلك أكثر من مرة ) فى المقهى الأدبى بمعهد العالم العربى بباريس بمناسبة صدور الترجمة الفرنسية لعدد من رواياته. كنا لا نكف كلما التقينا عن تبادل الآراء أو المشاعر حول ما يمس التصوف (ابن عربى خصوصاً) أو يتصل بمنجزات الشيخ مصطفى إسماعيل فى فن الأداء.
كان اللقاء قبل الأخير بيننا بدعوة منه لحوار فى برنامج تلفزيونى كان يعده أسبوعياً غمرنى فيه بكل مشاعر الود والصداقة والعرفان .. سيبقى جمال الغيطانى علامة بارزة بين روائيى جيل ما بعد نجيب محفوظ، يؤلمنى اليوم رحيله. ويفاقم من حدة ألمى أننا افترقنا قبل سنوات على جفاء اختتم صداقة قارب عمرها نصف قرن.
 مكي: لفت انتباهنا إلى الجوانب الإشراقية فى تراثنا
 أما الدكتور الطاهر مكى فيقول: استلهام جمال الغيطانى للتراث يدل على مدى انفتاح وثراء التراث العربى وانفتاح الحضارة الإسلامية على الثقافات المغايرة ولا يعنى الشرح أو الإضاءة مجرد التبعية وعدم القدرة على خلق فكر جديد وإبداع جديد فى حضارتنا،ولكنه يعنى قدرة هذه الحضارة فى تسخير المعارف الإنسانية فى التعبير عن نفسها والتعبير عن إبداع الذات أكثر من إبداع الآخر .ويلفتنا الغيطانى إلى الجوانب الإشراقية فى تراثنا خاصة تراث ابن عربى. وفى ظل انتشار الخرافة فى العالم العربى، فالمجتمع الآن فى حاجة إلى منطق العقل والعقلانية النقدية .
 البطران: تمكن بحرفية عالية من خلق عالم روائى خاص به
أما الروائى حمدى البطران فيقول: جمال الغيطانى واحد من ألمع كتاب جيل الستينات، وهو الجيل الذى تلا نجيب محفوظ وهو كاتب بنى نفسه بنفسه، تعد روايته الزينى بركات من أجمل وأروع ما كتب، وتدور حول ظلم الحكام التى استلهمها من التراث، ونشرها عام 1974، وقتها كان هناك نزاع صامت بين الكتاب اليساريين ومنهم الغيطانى والرئيس السادات، لأجل هذا وجدت الرواية قبولا، باعتبارها رمزًا للظلم والقهر، الذى تمارسه السلطة .
وبعدها بدأ ينظر إلى التراث باعتباره معينًا لا ينضب من الإبداع، وتمكن بحرفية عالية من خلق عالم روائى خاص به، غير أن رئاسته لتحرير سلسلة أدبية بالهيئة العامة لقصور الثقافة، مكنته من نشر العديد من النصوص التراثية المهملة، وإعادتها للحياة مرة أخرى، وبدأنا نسمع عن مؤرخين وكتاب عرب فى العصور السابقة.
لا أنسى له موقفه الرائع من قضيتى، عندما حوكمت أمام مجلس تأديب ضباط الشرطة عام 1998، فى أعقاب صدور روايتنا عن دار الهلال،  رواية يوميات ضابط فى الأرياف، كان أول من كتب، وأول من نبه إلى خطورة ما تفعله وزارة الداخلية بمحاكمتى، وبدأت مرحلة صداقتى به منذ تلك المرحلة .
ربما تأثر الغيطانى بصداقته بنجيب محفوظ، وظهر هذا التأثر من خلال النظر إلى الحارة، ومنها تعرف جمال الغيطانى على التراث.  
كانت له نظرة معمارية للمبانى التراثية، وتمكن بالتعاون مع التليفزيون من تسجيل معظم المبانى الأثرية، وقام بالتعليق عليها موضحا مميزاتها المعمارية وخواصها.
كما أسس صحيفة أخبار الأدب، عن مؤسسة أخبار اليوم العريقة، وسار بها نحو الأدباء الشبان، وانفتح على العالم العربى، فنشر لكتاب عرب صاروا مرموقين، وأصبحت تلك الجريدة متنفسًا لكل الأدباء العرب، وبعد أن تركها تخبطت قليلا . والغريب أن رئاسة تحرير أخبار الأدب، آلت إلى صحفى كان تلميذا لجمال الغيطانى، وهو طارق الطاهر، والذى يحاول بكل جهده، أن يعود بالصحيفة إلى سيرتها الأولى، التى بدأها جمال الغيطانى .
جمال الغيطانى افتقدته الأمة العربية، ككاتب عربى نال جوائز أوروبية، وترجمت أعماله إلى معظم اللغات .. اسكنه الله فسيح جناته .
 ناصر عراق: واحد من الكبار الذين كوى أفئدتهم عشق القاهرة بتاريخها الباذخ
أما الروائى ناصر عراق فيقول: يعد جمال الغيطانى واحدا من رموز جيل الستينيات الذين وجدوا أنفسهم فجأة وجها لوجه مع قامة باسقة هو نجيب محفوظ، الأمر الذى دعاهم إلى البحث عن جماليات مغايرة يعبرون بها عن قضاياهم حتى لا يسقطون فى مطب تقليد أعظم روائى مصرى وعربي. وهكذا مضى جمال ينقب ويفتش حتى عثر على كنزه الثمين، وأعنى الفترة المملوكية بكل ما تزخر به من وقائع وغرائب، فكانت روايته الخالدة (الزينى بركات) حصيلة هذا الجهد المضنى عن جماليات جديدة. والحق لقد أثبت جمال أنه واحد من أكثر الناس إخلاصا لفن القص، كما أنه واحد من الكبار الذين كوى أفئدتهم عشق القاهرة بتاريخها الباذخ، وقد تجلى هذا العشق فى روايات وبرامج وكتب. ويبقى دوره المؤثر فى تطوير الصحافة الثقافية من خلال تأسيسه لمطبوعة (أخبار الأدب) التى ظل يرأس تحريرها لمدة 17 سنة تقريبا، قدم من خلالها تصورا جديدا لمفهوم الصحافة الثقافية. رحم الله الأستاذ جمال.
 مهنا: أحد مجاذيب القاهرة الفاطمية وأحد عشاق العسكرية المصرية الحديثة
الروائى محمد مهنا يتذكر: لم يكن الأديب الكبير الراحل، جمال الغيطانى، أحد مجاذيب القاهرة الفاطمية فقط (المحروسة)، بل كان أيضًا أحد عشاق العسكرية المصرية الحديثة، التى انتصرت فى أعظم معاركها منذ 42 عامًا، فى السادس من أكتوبر 1973. ذهب إلى الجبهة مراسلا، وعاد منها بقصص إنسانية فريدة، لم يمهله القدر ليكتب عنها بالشكل الذى يرضيه ويرضينا، فهى أكثر من أن تُحصى.
هو حرفوش من حرافيش القاهرة، يعتز بتلمذته للأستاذ نجيب محفوظ، كبير الحرافيش، تلمس خطاه، وإن لم يكتفِ بكتابة الروايات فقط، بل آثر أن يجعل من الكتابة التاريخية الممتزجة بالأسلوب الأدبى الجذاب، منهجه الذى سار عليه فى مؤلفاته، وفى الصحافة التى كانت مهنته، وصنع من جريدة «أخبار الأدب»، العديد من التلاميذ الذين يتبوءون حاليا المناصب القيادية فى الجريدة.. وداعا صاحب «الزينى بركات»، و«ملامح القاهرة فى ألف سنة»، و«خلسات الكرى»، و«المجالس المحفوظية»، و«حكايات الخبيئة».
الكاتب يوسف الرفاعى: رحل مطمئناً ولم تلوث قلمه آفة التلون
فى حين يقول الكاتب يوسف الرفاعي: برحيل الأديب جمال الغيطاني، ينسدل الستار، آسفاً، على قلم لم تلوثه آفة التلون التى وصمت عديداً من رموز السنوات العجاف الأربع التى مضت، قلم لم يتقن ركوب الأمواج، ولا حاول، لإحساس دفين بداخله ينبئه بأن التاريخ يلفظ سريعاً تلك الأقلام التى تداهن، ولا يحتفظ فى أرشيفه إلا بالأنقياء.
جمال الغيطانى الذى كان لاسمه نصيب من فطرته لثورية، ترك فى عقبه كلمات تستعصى على النسيان، حين وصف تولى الإخوان لحكم مصر بأنه أسوأ من الاستعمار، وقد صدق، لأن من لم يعرف الإخوان فى وقتها، علمهم بعدها بأسلوب التجربة والخطأ، وتأكد له أهمية ألا تمر أقوال كاتب مثل الغيطانى مرور الكرام، لأنها ببساطة كتبت بصدق، وعن خبرة ووعي. كما أنه لم يجانب الصدق حين تشكك فى نوايا محمد البرادعى مبكراً، واعتبره خطراً على الوطن. ويبدو أن جهينة كان عندها الخبر اليقين فعلاً، فمنذ ولد بها، اكتسب صبغتها، فباتت كتاباته لا تحتمل إلا الصدق والشفافية.
إن وفاة الغيطاني، لن تمحو آثاره التى حفرها كنقوش فرعونية على جسد الثقافة المصرية، وحين أسس «أخبار الأدب»، قادها عبر عثراتها المادية بحكمة، ليجعل منها مناراً يهدى السابحين فى بحر الأدب، ليحافظوا على مساراتهم، آمنين من التخبط. وبرصيد أكثر من 50 كتاباً، أبرزها الزينى بركات، حكايات الغريب، التجليات والخطوط الفاصلة وغيرها، أبدع الغيطانى فى وصف مصر، وأجاد فى قراءة عثراتها بقدر ما أتاحه له موقعه، ليترك لأجيال لم تعش ما عاشه الفرصة لتفكير متزن فى زمن تختل فيه الموازين ويكاد كثير يضيعون طريقهم سدى.
أبوعوف: كان ثروة قيمة شهدت أخبار الأدب أزهى عصورها فى عهده
أما القاص محمد ابوعوف فيقول: طرت اليوم صفحة جديدة من الحزن داخل قلوبنا برحيل الأديب جمال الغيطاني، وكالعادة أول الشكوك التى تساورنى هل ستكرم الدولة الغيطانى وتعيد طبع أعماله، فجمال الغيطانى يعتبر الوريث الشرعى لأدب نجيب محفوظ لذلك الفاجعة كبيرة.
كما أنه أحد أهم الكتاب الذين اهتموا بالتراث العربى والتصوف والكتابات العربية القديمة، لذلك فالاهتمام بأدب الغيطانى يعد اهتماما بتراثنا الصوفى والأدبى والتاريخى المهجور.
لذلك يجب على الدولة والمؤسسات الثقافية الخاصة أن تقيم الجوائز باسمه، وأن تعيد وتذيع برامجه ولقاءاته باستمرار، فيكفينا متعة مسلسل ورواية الزينى بركات، ويكفينا برنامج قاهرة نجيب نحفوظ الذى سرنا معه داخل حوارى القاهرة وعرفنا أزقتها وتاريخها.
الغيطانى كان ثروة قيمة شهدت أخبار الأدب أزهى عصورها فى عهده، كما أن أفضل الأعداد صدرت أيام رئاسته للتحرير.
رحيل الغيطانى أمر موجع بقدر قيمته وأهميته، فبكل رحيل لقامة أدبية يحل محلها مئات من مدعى الثقافة وأرباع الكتاب.
كما أننى لا أتمنى أن تحتكر دور النشر الخاصة أعماله فتميته كما أماتت روايات نجيب محفوظ.. سلام على روح الغيطاني، فقد ترك فراغا كبيرا داخلنا لن يملأه أحد مهما كثر المبدعون والكتاب.