الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

وما جرى له...

وما جرى له...
وما جرى له...




يكتب: على الشامى

ليكتب التاريخ ما يشاء، ولكن، دوما للشارع رأى آخر، والسير الشعبية هى رأى الشارع، فمن رأى فيه الشارع بطولة كتب عنه وكتب له ومنحه صفات البطولة، إذن فالشارع هو المنتصر رغم سيطرة المنظمات الرسمية وتمكن السلطة، الجلباب والأزقة ورائحة البخور وجلسات الود حول أكواب الشاى تنتصر، رغم أنف الكرافتات والبدل الأنيقة والسوشى  - أكلة يابانية -  إذن، نحن أمام خطين متوازيين لا يختلطان أبدا، ولا يتقاربان حتى، فثمة فاصل خفى، فاصل ينظر بحنو واحتواء الى الرواية أو السيرة الشعبية، وبسخرية لأصحاب الياقات النظيفة  فى السيرة الشعبية للشهيد الحلاج، نجد أحداثا غريبة معظمها لم يقع ولكن هكذا أراد الناس صناعة التاريخ، أرادوا الحلاج بطلا ربما نكاية فى النظام الحاكم، ربما ندما على التواطؤ الهستيرى مع المؤسسة الرسمية، الرواية الرسمية تضع الحلاج فى خانة الكافرين الملاحدة، الهراطقة، خلاف ذلك من التهم سابقة التجهيز،  كانضمامه لطائفة الإسماعيليين والقرامطة، وهما من طوائف الشيعة ونشر المذهب الشيعى والترويج له –  ومن المضحكات المبكيات  أن هذه التهم مازالت مستخدمة حتى الآن – المهم أن الحلاج كان يجول فى بغداد ذاكرا الله، ومذكرا الناس به خالقا، طبقا للرواية الرسمية، مناخا لم يتحمله الخليفة ولا أتباعه، فقتلوه صلبا، أما الجماعة الشعبية فافتتحت سيرته بتحويله الى مسيح جديد تبدأ السيرة بهذا المفتتح الساحر: «أنه فى قديم الزمان وسالف العصر والأوان فى مدينة بغداد على زمان الشيخ الجنيد رحمه الله تعالى امرأة صالحة لم ترزق ولدا ذكرا، فنذرت لله تعالى إن وضعت ولدا ذكرا تجعله خادما للفقراء وتوهبه الى الشيخ الجنيد، فاستجاب الله تعالى لدعاها، وحملت، ولما وضعت جابت غلاما كالبدر... الخ».
تماهى واضح بين قصة السيدة مريم بنذرها لعبادة الله فى المحراب ودمجها بشكل أو بآخر فى قصة المسيح الطفل الذكر، وتنتهى القصة بالصلب ثم حديث الحلاج مع اخته بأن تجمع رماده بعد حرقه وتلقى به فى ماء نهر دجلة، إذا ما فاض ليهدأ ولا يغرق بغداد، وهو شبيه بحديث المسيح مع السيدة مريم وبقيامة المسيح طبقا للعقيدة المسيحية، واللافت أيضا أن الجنيد لم يكن شيخا للحلاج – لم يلتقه سوى مرة واحدة فى بغداد ولم يكن الجنيد قد علا شأنه فى الصوفية - ولكن لزم هنا فكرة الشيخ والمريد، ويقول الجنيد فى السيرة الشعبية مخاطبا الحلاج «اكتم سرك وإلا ما تسلم» وفى المراجع أن محيى الدين بن عربى قال  ما يشبه المعنى فى حديثه عن الحلاج، وأن الجيلانى أقر بالمعنى نفسه، إذن فما قتل الحلاج هو الكشف أو المجاهرة بالسر وتظل الفكرة هذه ملاصقة للرءوس حتى يومنا هذا فمن كشف كرامة عوقب لكشفها.
والحلاج كان قد شرب من كأس الوصال فاضطرب حاله، ولم يعد قادرا على كتم حاله فقتل، ويقول سلطان العاشقين جلال الدين الرومى فى ديوانه الأشهر مثنوى قصصا عن كتم الحال إلا لمن يستطيع ادراك فلا يعقل أن تتغنى بالوطن وسط جماعة من فاقدى الانتماء، ولكن هو قدر، جاهر المسيح حبا فى الإنسانية فقتل – ولو رمزا  - وجاهر الحلاج حبا لله فقتل، وكل محب يجاهر تقتله مكاشفته بأيدى الرعاع الذين لا يدركون معنى المحبة، وكل مدرك يكاشف يكون مصيره مصير الحلاج، فكم من حلاج قتل فى عصرنا؟  ولكن يظل قدر العاشقين – وأسمى صورهم عاشقو الأوطان – البوح والمكاشفة ويظل قدر الرعاع التكلف، والبغض حد القتل، وتظل اليد العليا للسيرة الشعبية سيرة المخلصين من المحبين الذين لم يجاهروا فكتبوا فى محبة المجاهرين ونصبوهم سلاطين للعشق.