السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«جارودى» المفكر المسلم الذى عاقبت «إسرائيل» أفكاره بالحرق مع جثمانه

«جارودى» المفكر المسلم الذى عاقبت «إسرائيل» أفكاره بالحرق مع جثمانه
«جارودى» المفكر المسلم الذى عاقبت «إسرائيل» أفكاره بالحرق مع جثمانه




كتبت- مروة مظلوم

إن نصف ذرة من نور الله كافية لتنير لك الطريق إليه ما تبقى لك من عمر.. كافية بأن ترمم جدار عقلك المتهالك من ظلم الدنيا وجورها.. كافية بأن تبعث قلبك من جديد من النقيض إلى النقيض فتجد قدمك تسلك طريقًا ما خططت للسير فيه أبدًا ويدك تدق بابا لم تحلم بالوقوف به أبدًا.. كذا هو الحال مع شيخ مشاغبى العصر وإمامهم «روجيه جارودي» كما وصفه المفكر الإسلامى فهمى هويدي.. أشهر من أنصف الإسلام فى الغرب فى القرن العشرين الفيلسوف الفرنسى روجيه جارودى الذى تحل ذكرى وفاته الخامسة فى 13 يونيو.


روجيه جارودى أو «رجاء غارودي» كان من أكبر المتحمِّسين للشيوعية والفلسفة الماركسية المادية، وأصيب بصدمةٍ بعدما اكتشف زَيْفَ الشيوعية، بدايةً من عام 1956 بعد أن كَشَف الرئيس الروسيُّ «خرشوف» فضائح عهدِ «ستالين.
أكبر تحول فى حياة «جارودي» كان تحوله للإسلام؛ لقد تعرف على الإسلام مبكرًا جدًا، وهو يقل فى أحد الحوارات التى أجريت معه: «لقد عشت فى بداية الحرب العالمية الثانية تجربة فريدة من نوعها «لأن قوات الاحتلال الألمانى قبضت على المجموعة الأولى للمقاومة الفرنسية حين سقطت باريس، وصدر الأمر بنقلها إلى معسكر (الجلفة) فى جنوب الجزائر، وكنت أحد أفراد هذه المجموعة، فدعوت رفاقى إلى تمرد فى السجن، وفى مارس من سنة 1941م دعوت نحو خمسمائة منهم إلى التظاهر لتأكيد اعتراضنا على السياسة النازية.. وبعد ثلاثة إنذارات من قائد المعسكر.. أصدر أوامره للجنود بإطلاق النار علينا ففوجئنا برفض الجنود ذلك حتى بعد تهديدهم بالسياط.. ولم أفهم للوهلة الأولى سبب رفضهم، ثم عرفت أن هؤلاء الجنود كانوا من الجزائريين المسلمين، الذين يرون أن شرف وأخلاق المحارب المسلم تقتضى ألا يطلق النار على إنسان أعزل.
ويضيف «جارودي» لقصته جزء خفى عما روج للإسلام فى الغرب: «لقد صوروا لنا المسلم على أنه متوحش همجى، فإذا بى أمام منظومة قيم متكاملة لها اعتبارها لقد علمنى هذا الموقف، واستفدت منه أكثر من استفادتى عشر سنوات بالسوربون» وعندما أطلق سراحى، بقيت فى الجزائر مدة عام، وخلاله التقيت برجل عظيم، كان له أكبر الأثر فى نفسي- هو الزعيم الإسلامى الشيخ «البشير الإبراهيمي»، رئيس رابطة العلماء المسلمين الجزائريين-وقد قمت بزيارته، بصحبة «عمّار أوزيجان» صاحب كتاب: «الجهاد الأفضل»، وفى مقر الشيخ الإبراهيمى لاحظت صورة كبيرة لرجل مهيب. ولأول مرة أتعرف على صاحبها، عندما شرح لى الشيخ البشير جوانب من حياة الأمير عبد القادر الجزائري-عدو فرنسا-كبطل محارب وعابد ناسك؛ بل كواحد من أعظم أبطال القرن التاسع عشر. ويعتبر هذا الدرس من الشيخ الإبراهيمي-بالنسبة لي-المرة الثانية التى ألتقى فيها بالإسلام.
يؤكد جارودى أن اعتماد الإسلام على المنطق والعقل فى خطاب الإنسان أكثر ما جذبه إلى القراءة فى هذا الدين: «نعم فقد وجدت فى الإسلام مبتغاى ومقصدى فكرة المنطق ففى الإسلام تجد العلاقة بين الله الخالق وبين المخلوق الإنسان علاقة مباشرة بلا وسيط بينهما كما هو الحال فى الكنيسة فى المسيحية أو علاقة مباشرة انفصالية كما هو الواقع فى القانون الروحانى حيث الإنسان هو سيد الكون.
جارودى كان له موقف صريح من الاعتداءات الصهيونية على الأراضى العربية ومذابحهم مما جعل التكتلات الصهيونية «اللوبي» يمنعه من الظهور فى الصحف ووسائل الإعلام حتى لا تتخلل أفكار جارودى المجتمع الغربى وتعرقل المساعى الصهيونية بأكاذيبها الملفقة فكشف الأكاذيب كان يؤرق نمو الكيان الصهيونى فى المجتمعات الغربية وعن موقفه هذا قال جارودي: «لأن المبادئ لا تتجزأ، فقد أعلنت موقفى صريحًا مدويًا برفضى الحاسم للاجتياح الإسرائيلى لجنوب لبنان فى صيف 1982م على صفحة كاملة بصحيفة «اللوموند» الفرنسية اشتريتها لحسابى الخاص من 17 يونيو 1982 موجهًا نقدًا لاذعًا لإسرائيل والصهيونية لإقدامها على اجتياح لبنان لتغذى غرور الغطرسة والهوس المزمن الذى تزكية أمريكا، وكانت هذه المقالة بمثابة الطلقة الأولى التى خرجت من حنجرتى لتعلن بداية حرب ضروس ضدي.
ولهذا الموقف عوقب جارودى وتمت محاكمته عام1990 م إذ صدر قانون جديد باسم «فابيوس جاسبو» لمحاكمة كل من يحاول إنكار المحارق النازية لليهود فى ألمانيا وهكذا وجدت طريقى إلى المحاكمة الثانية عام 1998م من باريس بسبب آرائى فى كتاب (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية) حيث رصدت بداخله خرافة أسطورة حرق 6 ملايين يهودى فى أفران هتلر فكيف يحدث حرق 6 ملايين يهودى وعدد اليهود فى أوروبا كلها لم يكن يتجاوز آنذاك 3.5 مليون يهودى، وهكذا نكتشف خرافة الأسطورة، فى حين أن هتلر قتل من الروس والشيوعيين أكثر مما قتل من اليهود، وأسجل هنا أننى ضد قتل فرد واحد بسبب دينه أو رأيه أو فكره، وقد انتهت المحاكمة هذه إلى الحكم على بالسجن لمدة 9 شهور مع إيقاف التنفيذ وغرامة مالية 100 فرنك فرنسي.
مؤلفات «جارودي» هى حصاد العمر له وعنها قال «حصاد عمرى يتمثل فى أفكارى وقناعاتى التى أودعتها كتبى ورغم أننى كتبت عن «كارل ماركس وفكر هيجل والنظرية المادية للمعرفة وماركسية ضد العصر»، حيث حاولت التقريب بين الوحدوية والشيوعية. فقد كتبت عن «حوار الحضارات» لأكشف كذب ادِّعاء مقولة صراع الحضارات وكذلك كتب «البديل وملف إسرائيل وأحلام الصهيونية وأضاليلها والأساطير المؤسسة للسياسية الإسرائيلية وأخيرا كتاب أمريكا طليعة الانحطاط، وآخر ما صدر لـ«جارودي» كتاب «الإرهاب الغربي» عن دار الأمة الجزائرية بعد أن رفضت كل دور النشر الفرنسية طباعته خوفًا من اللوبى اليهودى فى فرنسا.
العقاب الأخير لـ«رجاء جارودى» كان فى وداعه فالمفكر المسلم الذى توفّى عن عمرٍ ناهز 98 عامًا كما نقل السياسى والكاتب العربى المقيم فى باريس «على نافذ المرعبي»، حيث كتب مقالًا تحت عنوان: «بعد رحيل روجيه جارودى فارس الفكر والفلسفة....ورجل المواقف النبيلة» أورد فيه أحداث الجنازة التى اقتصرت على حدّ قوله على ترتيبات داخل مقبرة ضاحية «شامبينى سير مارن» الباريسية فى حضور متواضع للغاية لم يتعدّ مائتى فرد أغلبهم من العرب والمسلمين المقيمين داخل قاعة صغيرة عرضت فيها إحدى الشاشات بانوراما لأعماله باستثناء كتابى «الأساطير المؤسسة للدولة الإسرائيليّة «ونداء للأحياء» الّذى يؤكد فيه على أهمية القوميّة العربيّة.
ويلقى «المرعبي» القنبلة الكبرى عندما يقول: «فى تلك القاعة «المشؤمة» علمنا أن أسرته قررت أن تحرق جثمانه وأن لا يصار إلى دفنه، وهذا يؤكد عدم رغبتهم بدفنه حسب الشريعة الإسلامية، ولا يستطيعون دفنه على التقاليد المسيحية لأنه توفى وهو مسلم، واعتقد أن هذا القرار ورائه جهات خبيثة، أرادت أن تنتقم منه وهو ميت، بعد عدم استطاعتها النيل منه وهو على قيد الحياة. وهى إهانة مريعة لحرمة الأموات المسلمين.» ويستطرد «المرعبي» ليتناول» العقبات التى منعت إقامة حفل تأبين «لجارودي» حيث قامت إدارة القاعة بإلغائه بعد إتمام الحجز فى ملابسات مريبة! وجاءت الطامة الكبرى برفض نائب عميد مسجد «باريس» الكبير إقامة صلاة الغائب على روحه فى وقتٍ لاحق تحت حججٍ واهية – على حدّ قول «المرعبي»- كعدم توافر وثيقة قانونيّة تثبت إسلامه أو عدم قدرته على تحديد جواز الصلاة على من أُحرق جثمانه من عدمه! وانتهى الحوار بتأكيد الرجل على أن هذه المسألة تحتاج لقرار سياسى لا يستطيع تحمل مسئوليته بمفرده.