السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

مشروع قومى تبنته الرواية المصرية

مشروع قومى  تبنته الرواية المصرية
مشروع قومى تبنته الرواية المصرية




تحقيق- مروة مظلوم

 

«تستطيع أن تهيننى لكن لا تهن زوجى، إنه رجل اعتمد على ذراعه، لم يأنف يومًا من ارتداء لباس العامل الملطخ بالشحم والزيت ليعمل تحت إمرة أسطى فى الورشة وهو المهندس خريج الجامعة هكذا شق طريقه».. بكلمات بسيطة وصفت الأميرة زوجها عاملًا يعتمد على ذراعه ليكسب قوت يومه بشرف حتى جاء اليوم الذى سددت فيه ورشة الميكانيكى ديون قصر الأمير.. إنها إحدى روائع توفيق الحكيم التى قدمت صورة مغايرة للمجتمع المصرى عن العامل صاحب الخبرة والشهادة الذى رفع شعارا تبنته مؤسسات الدولة المصرية على اختلافها وتنوعها السياسية والاقتصادية والثقافية.. شعار «صنع فى مصر».
■ مسرحية «الأيدى الناعمة»
تم تحويلها لفيلم سينمائى يحمل نفس الاسم، وإن كان هذا هو التشابه الوحيد إلى جانب أسماء الشخصيات والأحداث ولكنهما مختلفان فى المضمون، فعلى غرار الفيلم تركز المسرحية أكثر على فترة ما بعد الثورة وما تلاها من أعمال تأميم للممتلكات وبالتالى رفع شعار العمل الفعلى ويحمل رسالة أهم من تلك التى تناولها الفيلم وهى أهمية العمل وارتباطها بالعلم فلا وجود لهما فى الحياة إلا وهما متداخلان أحدهما يؤدى إلى الآخر ولكن هل العمل أهم أم العلم أم كلهما يكمل الآخر فالاختلاف بينهما كما يوضح «دكتور حمودة» «دكتور فى حتى» يكمن فى موضع الميم واللام..
وتم طرح الفكرة من خلال البرنس فريد والدكتور حمودة ضحايا البطاله فالأول عاطل بالوراثة بحكم عرقه الملكى والآخر بسبب درجته العلمية التى لا يوجد طلب عليها أما «سالم» زوج «مرفت» ابنة البرنس فهو رمز العمل المرحلة التى تلت الثورة المجتمع الغارق فى بحار الطبقية الجاحدة وعدم التوزيع العادل للمال بين الشعب، «سالم» مثال للشاب المكافح فهو يرى أن الإنسان أجير «يعيش كأجير وينتج كمدير» وأخته «كريمة» التى تمثل أيضا رمزًا للعمل والنشاط لدرجة معدية تكفى أن تصيب البرنس «فريد» بداء العمل ليصبح على أثرها محب للعمل وتتغير فكرته عن الحياة وعن من حوله من شخصيات به فيرى أن قيمه الشخص ليس فى عرقه وأصله ولكن بما يمثله وما وصل إليه فى العمل كما يوضحه توفيق الحكيم من خلال هذا العمل الرائع هو «الحب والهوى والهواية».
■  قيمة العمل فى النص الأدبي
يرى القاص الكبير أحمد الخميسي، أن الأدب قلما يعكس خيطًا سياسيًا كعبارة «صنع فى مصر» لم تكن مجرد عبارة أو شعار لشحن النفوس، وإلا لكان أثرها قد تلاشى، لكنها ترافقت بالفعل مع إنتاج سلع مصرية: ثلاجات، غسالات، بوتجازات، منسوجات وغير ذلك، ولهذا كانت العبارة تنبه المواطن إلى أن لديه سلعته من إنتاجه وعليه تشجيعها. بالطبع كانت هناك أغان بل وإعلانات كثيرة جميلة بهذا الشأن، وأفلام أذكر منها فيلم «الحب كده» للمؤلف «محمد أبو يوسف»، وقام ببطولته صباح وصلاح ذو الفقار الذى كانت لديه ورشة تصليح سيارات، وكانت معظم الأعمال الفنية فى هذه الفترة تهدف إلى إظهار قيمة « العمل»، أما صورة العامل الحقيقية فلم تكن تظهر إلا نادرًا. كذلك الحال لمسرحية «الأيدى الناعمة» التى تحولت إلى فيلم بنفس الاسم، الفيلم أظهر قيمة العمل وليس صورة العامل الرئيسى فى الفيلم مشكلة الأرستقراطية التى ترفض العمل (أحمد مظهر).. وقبولها بالعمل، هذا كان الموضوع الأساسى والباقى «بيخدم عليه»، لكن لم تكن «صورة العامل» هى موضوع الفيلم.
■ صورة العامل
ارتبطت أساسًا بما قدمه الكاتب محمد صدقى من قصص، وما قدمه كتاب اليسار مثل عبد الرحمن الشرقاوي، وعبد الرحمن الخميسى فى قصة «مفتش الحركة» وغيرها. لكن أولئك الكتاب قدموا صورة العامل كما هى، من زاوية عرض الظروف الحقيقية التى يعيشها العامل، وما يعانيه من ظلم. وكانت تلك الصورة جديدة، وواقعية، مقارنة بما سبقها من صور تظهر العمال بصفتهم سعداء بشقائهم، وأنهم يعتبرون ذلك الشقاء أمرًا طبيعيًا. لكن لن نجد فى الأدب شيئًا يقوم بتلميع صورة العامل، لأن هذا ليس دور الأدب، فدوره هو إظهار الحقيقة، وقد يقوم الأدب بتلميع قيم معينة، وسلوكيات معينة، وقد حدث هذا مع قيمة « العمل»، وكان الشعار السائد فى مرحلة ما: «العمل شرف، العمل حق، العمل واجب».
■ ملح الأرض
عانت طبقة العمال والفلاحين فى مصر فترة ما قبل الثورة بشكل ملحوظ، كان للجهل والمرض أثره على ملح الأرض من المصريين مما جعلهم مادة ثرية لكبار الكتاب منهم يوسف إدريس و «رواية الحرام»، إذ أدان فى روايته للنظام الاجتماعى فى مصر والتى لا توجد ضمانات اجتماعية، والفلاح والعامل البسيط يهضم حقه، وتهميش الخدمات الصحية تقريبا معدومة، وظهر ذلك جليا فى مشهد مرض «عبد الله» زوج «عزيزة» وعدم إيجاد العلاج المناسب، مما جعله طريح الفراش وآل به إلى هذه المأساة.
يصف الكاتب فى القصة حياة الترحيلة، ومدى قسوتها التى كانت تسود بينهم وبين أهل التفتيش، ويسلط الضوء على هذه الشريحة بالذات لأنها هى الطبقة الكادحة العاملة والتى تعتبر حقوقها مسلوبة.
أما رواية «وردية ليل» للكاتب الراحل إبراهيم أصلان، ففيها ينتبه البطل فجأة إلى الجهاز الذى أمامه، كان الجهاز يرمقه بعينه الحمراء الوحيدة، هذه الصورة التى فاجأتنا، وجعلتنا ننتبه إلى كل الأجهزة التى نستعملها وهى ترمقنا بعيونها الحمراء الغاضبة منا، أو علينا، وهى غاضبة من الكاتب الذى يستفيض بالكلام، ويؤجل الوصول إلى مبتغاه.
وجاءت الكاتبة «فوزية أسعد» وروايتها «أحلام وقمامة القاهرة» لتتطرق بأحداثها إلى مجتمع جامعى القمامة فى القاهرة وخلفياتهم الاجتماعية ومحاولات وضعهم ضمن برامج تنموية لجمعيات أهلية، وتشير المؤلفة إلى أن الرواية تهدف إلى التشديد على برنامج لتنمية مجتمع جامعى القمامة فى حى المقطم، إضافة إلى تنوير بنات هذا المجتمع عبر الدراسة والعمل وكسب المال والتحرر إلى حد ما من قبضة السلطة الأبوية».
الكاتب الكبير عبدالرحمن الشرقاوى تناول حياة الفلاح المصرى ومأساته الأزلية للحصول على قوت يومه مع ربط هذا الواقع المؤلم بالظروف السياسية، التى كان يعتبرها أحد أسباب قهر المواطن المصري، فجاءت رواية «الأرض» لتتناول موضوع الريف المصرى فى منتصف القرن الماضى بكل تفاصيله، علاقاته مع المدينة، أسلوب معيشته، علاقة أهل الريف مع بعضهم، موقفهم من حكومتهم التى كان يتزعمها حزب الشعب آنذاك، ارتباطهم بماضيهم المتجسد بمشاركتهم بثورة عرابى 1919 ومحاولة إحيائه عبر تأييدهم لحزب الوفد.
■ قيادة ذكية وظفت المثقفين لخدمتها
يرى د.عمار على حسن أن الاهتمام بالطبقة العاملة لم يكن مرتبطًا بثورة يوليو 1952 فحزب الوفد اهتم بالطبقة العاملة وكان هناك جناح يسارى يدافع عن حقوق هذه الطبقة ومن أعظم النقاد الذين كتبوا عنها د. محمد مندور، وأطروحة د. محمد السعيد إدريس، فضلا عن الحركات الشيوعية وجمعية نهضة مصر، لكن فى إطار حملات تشويه ما قبل ثورة يوليو 1952 اعتقد العالم أن شعار صنع فى مصر هو نتاج الثورة لكنه أقدم من ذلك وأعظم مثال عليه طلعت حرب الذى نادى بتمصير كل شيء حتى صناعة السينما، ولكن الشعار لم يظهر بهذا الوضوح إلا بفضل الأدباء والمفكرين وأقلامهم التى رصدوها لخدمة الأيديولوجية السياسية بعد ثورة 1952 فقد كانوا على قدر عالى من الثقافة والوعى بدورهم فى خدمة فكر واتجاه السلطة «جمال عبد الناصر» التى رصدت جهود مؤسسات الدولة لخدمة هدف معين، لكن ما يحدث الآن ينم عن حكومة جاهلة لا هدف لها غير واعية بدور المثقفين وقيمتهم ودورهم فى المجتمع.
كثير من الأدباء اليساريين اهتم بصورة العامل المصرى وصدر صورة ذهنية سليمة عن حياته مثل صنع الله إبراهيم وجمال غيطانى وفكرى الخولي، محمد صدقى وهناك من مجدوا اتجاه السلطة فى الأدب الوعظى، وهناك أدباء انحازوا لضرورة فصل الفن والأدب عن السلطة واتجاهاتها فأظهروا العامل المصرى كإنسان له شواغله وهمومه وليس كأداة من أدوات الإنتاج التى تحركها السلطة.
هل سبق وقرأت رواية بقلم فلاح أو بقلم عامل، يصور حياته كما يراها بعينيه.. ويتيح لنا أن نراه كما يرى هو نفسه فبالتأكيد قرأت «الرحلة « للعبقرى «فكرى الخولي»، دون حوار متكلف، يتناول الخولى فى «الرحلة» حياة عامل مصرى منذ أن كان طفلًا ترك قريته ليلحق بأصحابه الذين سيعملون بمصنع الغزل والنسيج الجديد الذى أسس بمدينة المحلة الكبرى، فنتعرف على جزء مهم ومجهول من حياة القرية فى مصر فى عشرينات القرن العشرين، والتغيرات التى طرأت على مدينة المحلة بسبب التصنيع، وأحوال العمال الذين أتوا من أقاصى مصر ليُبنى على أكتافهم وبتضحياتهم مجد مصر الصناعي. عمل فنى حقيقى وغير مصطنع وممتع إلى أقصى درجة.
■ الرواية التليفزيونية
الرواية التليفزيونية هو مصطلح وصف به الراحل أسامة أنور عكاشة «النص المرئى» باعتباره نصاُ أدبيًا رفيعًا، وليس مجرد «ورق» للتمثيل والتصوير، فهو أول كاتب درامى يطبع سيناريو مسلسله فى كتاب وهو «ليالى الحلمية»، ليس بهدف الربح كما فعل أصحاب السيناريوهات المتهافتة من بعده، بل لقناعته أن نصه المرئى ينتمى إلى نصوص محفوظ وتولستوى وتشيكوف. وعندما عجز عن العثور على منتج يتحمس لفيلمه الأخير طبعه أيضا فى كتاب بعنوان «الإسكندراني»، أسامة أنور عكاشة اهتم بالطبقة العاملة فقد شغلت حيزًا كبيرًا من «دراما عكاشة» الذى حرص على أن يبرز العامل على درجة من الوعى والثقافة وإن لم ينل حظه كاملا من التعليم فخبرة الحياة لدى الأسطى فرج شخصية «الترزي» التى جسدها الراحل صلاح قابيل فى مسلسل «الحب وأشياء أخرى» كانت أكثر حكمة من تفكير «سامح « مدرس الموسيقى الشخصية التى جسدها الراحل ممدوح عبد العليم وظهر هذا فى رقى الحوار: «شوف يا سامح اللى زينا طالعين من ألف سنة اتعجنت بتراب الصنعة واتروت بمية نيل يروى مليون زرعة، مفيش حاجة بتموت جواهم لا الحب يموت بالفراق ولا الفرح يموت بالحزن.. إحنا أسطوات صنايعية شغلتنا تأييف وتفصيل وما عندناش حاجة بتترمى كله بيعيش جوانا».
■ صراع الطبقات هو لعبة احترافية
أجادها عكاشة فى روايته التليفزيونية التى أمتعنا بها لعقود وأجيال «ليالى الحلمية»، الصراع بين «سليم البدري» الباشا و»سليمان غانم» الفلاح حول مصنع البدرى واستخدام العمال كأطراف فى هذا النزاع يتم استقطابهم من كل مالك للمصنع خلال الخمس أجزاء وينتقل الصراع من الآباء إلى الأبناء، ويصور «عكاشة» حياة العمال قبل وبعد التحاقهم بالعمل داخل المصنع وأثر العمل والإنتاج فى حياتهم قبل الثورة وبعدها فتضعهم فى مواجهة مع العلم فتضطرهم لصقل خبرتهم بالتعليم للتعامل مع الماكينات الحديثة وأزرارها، وما بين الصراعات الحزبية والمطالبة بحقوق وحريات تدور أحداث المسلسل ثم يأتى عصر الانفتاح وتعود أحلام الباشوات فى تملك المصنع مرة أخرى بعد الخصخصة فى زى رجال الأعمال والصناعة، وتملك زمام الأمور من جديد ليعود العمال نموذج للطبقة المهمشة، الأسطى زكريا، الأسطى شاهين، الأسطى متولي، عمال مصنع البدرى الدائمين وسكان الحلمية تعيش معهم على مدار خمسة أجزاء جزء من تاريخ مصر فى أحد شوارعها يؤرخ عكاشة بالصورة لوطن بكامله، لمدينة، لطبقة اجتماعية تتآكل، ويتابع ذلك عبر أكثر من جيل.. هو الحال نفسه فى «الشهد والدموع» و«الراية البيضا» أنا وأنت وبابا فى المشمش «زيزينيا» و«المصراوية».