الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

والدة الشهيد محمود طه تستعيد ذكرياته العطرة مع «روزاليوسف» : آخر كلماته قبل استشهاده يا نعيش على أرضها شرفاء يا نموت شهداء

والدة الشهيد محمود طه تستعيد ذكرياته العطرة مع «روزاليوسف» : آخر كلماته قبل استشهاده يا نعيش على أرضها شرفاء يا نموت شهداء
والدة الشهيد محمود طه تستعيد ذكرياته العطرة مع «روزاليوسف» : آخر كلماته قبل استشهاده يا نعيش على أرضها شرفاء يا نموت شهداء




حوار ـ سلوى عثمان

 

نماذج تستحق التقدير والاحترام، قدمت الكثير من التضحيات، وكما نقول وراء كل رجل عظيم امرأة، كذلك وراء كل بطل شهيد أم أنجبته ليكون حارسًا لتراب الوطن، لم يبخلن بفلذات أكبادهن ليكونوا فداء لمصر ليسود الأمن والأمان بتصديهم لكل الجبهات التى تريد النيل من الوطن، ومحاربة الإرهاب داخليًا وخارجيًا.
«روزاليوسف» التقت أمهات وزوجات الشهداء ليسردن لنا بطولات وحياة ذويهم الشخصية ليقتدى بهم الشباب، ويتعلم سيرتهم الحميدة وعزمهم على مواجهة الصعوبات وتحقيق المستحيل حتى نيلهم الشهادة.

عشق تراب هذا الوطن، واحترف الفداء والدفاع عن أرضه، ووقف للتكفريين بالمرصاد، فدمر أوكارهم، وفكك عبواتهم الناسفة، وظل يسطر بطولات فى الشجاعة إلى أن أطلق عليه أصدقاؤه لقب «أسد سيناء»، إنه الشهيد محمود طه، الذى التقينا والدته السيدة فاطمة محمود محمد لتحكى لنا عن بطولاته ونشأته، وتروى لنا اللحظات الأخيرة فى حياة الشهيد، وكيف بكت السماء على فراقه يوم تشييع جنازته، وغيرها من المواقف العطرة نوردها فى نص الحوار التالى.

■  قربينا أكثر من حياة الشهيد؟
ــ ولد ابنى محمود فى ١ نوفمبر ١٩٨٩، بمركز أجا محافظة الدقهلية، كان  يتميز بالهدوء التام لدرجة أننى كنت اتركه مع والدتى أثناء فترة عملى كمدرسة، كان لا يحدث شغبًا أو ضجيجا لمن حوله، مطيعا بشوشا، متدينا بطبعه، قارئا لكتاب الله.
التحق بالمرحلة الابتدائية فى نفس المدرسة التى أعمل بها سنة ١٩٩٥،  فكان مثالًا للتلميذ المجتهد، فقد حصل على المراكز الأولى فى الدراسة والأخلاق، بالإضافة إلى تميزه فى مجال الرياضة (كرة القدم) وتقدم لمسابقات على مستوى المحافظة فكان متميزًا،  ثم مارس رياضة كمال الأجسام لبناء جسده، إذ كان يتمنى منذ صغره أن يصبح ضابطًا عسكريًا وكان ذلك واضحا عندما كان يعشق اللعب مع أصدقائه بالمسدسات والرشاشات والدبابات، فكان والده يشتريها له، ثم حصل بعد ذلك على الشهادة الإعدادية، ثم الثانوية بتفوق، وقدم أوراقه أولًا فى كلية التربية الرياضية جامعة المنصورة، وفِى آخر يوم قدم أوراقه فى الكلية الفنية العسكرية وكان يدعو من كل قلبه أن يتم قبوله.
وبالفعل اجتاز جميع الاختبارات بنجاح والتحق بالكلية العسكرية، وحصل على شهادات تقدير طوال سنوات الدراسة فى فرقة الصاعقة والمظلات نظرًا لتفوقه العلمى والرياضى والأخلاقى، وتخرج فى ١٨ يوليو ٢٠٠٩.
وحدث شىء غريب يوم حفل التخرج، فاثناء انتظار قدوم ابني، نظرت إليه نظرة عميقة معجبة به، ثم خرجت منى دعوة تلقائية فوجدت نفسى أردد «احتسبتك عند الله شهيدا يامحمود» وارتجف قلبى وذرفت الدموع من عينى من خروج مثل هذه الدعوة، وكأن أبواب السماء كانت مفتوحة فى هذه اللحظات.
■  كيف كانت علاقة البطل بأسرته وعائلته؟
- علاقته بأخوته وأهله كانت قوية، فهو ارتبط بِنَا ارتباطا قويا وكانت لابنى محمود معزة خاصة زائدة عن باقى الأبناء، رغم أن ترتيبه كان الثالث بين إخوته، فقد كنت فخورة بأن ابنى التحق بالحربية وأنه سيكون فى خدمة الوطن عاشقا لترابه. فكان «محمود» دائما ما يوصى والده بإخوته وخاصة فى آخر مكالمة دارت بينه وبين والده.
 ■  ماذا بعد تخرج الشهيد؟
التحق بسلاح المدرعات بالجيش الثانى الميداني، بدأ حياته العسكرية بوحدته بالإسماعيلية ولَم يتركها حتى استشهاده، وكان يتميز بين أقرانه وزملائه بالتفانى والإخلاص فى العمل يحترم الصغير قبل الكبير محبا للجنود يعتمد عليه فى العمل وذلك لتفوقه فى مجال عمله بسلاح المدرعات.
■  هل توقعتى أنكِ ستصبحين أم شهيد؟
- قبل استشهاده بأسبوعين كنت فى المدرسة وأثناء عملى بالكنترول شرد ذهنى فجأة، وقلت فى قرارة نفسى إن ابنى سيستشهد، وأن هذه المدرسة سيتم تسميتها باسمه، مر شريط سينمائى بطريقة استشهاده.
وفِى تلك اللحظات وجدت نفسى أردد حديث رسول (صلى الله عليه وسلم) «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن إصابته سراء شكر فكانت خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكانت خيرًا له». وظل هذا الحديث يتردد فى ذهنى ولسانى وكأنها رسالة من الله عز وجل على ما يجب فعله بعد استشهاد ابنى وهو شكره.
فى هذه الفترة ـ قبل استشهاده ـ كنت دائمًا ما أقول «اللهم اجعلنا من الصابرين عند البلاء ورضنا بقضائك»، وكان قلبى يقبض دائمًا عندما أتابع الأخبار وأجد أبناءنا يتساقطون شهداء أقول لنفسى «الدور على ابنك المرة الجاية» كنت فى حالة قلق وترقب.
كان نفسى افرح بابني، كان عريس وخاطب بنت خاله، وجهز شقته، وكان من المفترض أن يشترى الأثاث من دمياط فى آخر إجازة له، ولكن القدر لم يمهله، فقد اشترى كل مستلزماته الشخصية وملابسه، وبعد استشهاده عندما أدخل شقته الكائنة فى بيت العائلة قلبى يعتصر ألمًا عليه، وأقول «كان نفسى أشيل أولادك ولكنه قضاء الله» وما يصبرنى أنى شاهدت رؤيا فى منامى لابنى بعد استشهاده وهو يرتدى ملابس عمله (الأفارول) ويحمل سيفًا مكتوب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله.
من العجيب أن ابنى كان يشعر بأنه سيكون شهيدا حيث روى لنا أحد أصدقائه أن «محمود» رأى رؤيا قصها عليه بأنه كان يرتدى ملابس بيضاء ويحمله حصانا أبيض يحلق به فى السماء ففهمنا الرؤيا ولَم نفسّرها له بأنه سوف يختاره الله شهيدا.
ومن المواقف التى لن أنساها، عندما روت لى دكتورة صيدلانية تعرفت على ابنى أثناء تأمينه الانتخابات فى محافظة الإسماعيلية، أنها قالت لابنى «خلى بالك من نفسك يا كابتن إنت تستأهل الشهادة» وذلك نظرا لأخلاقه الرفيعة والنور الذى يبدو على وجهه، فرد عليها الشهيد قائلا «حد طايل الشهادة يا ريت»، فقالت له: «بس ابقى افتكرنى وخدنى معاك الجنة»
■  حدثينا عن آخر إجازة قضاها الشهيد معكم؟
- كان أكثر الوقت صامتا، وكأن شيئا يشغل باله، فقررت أن آخذ إجازة من عملي، كان ذلك يوم اثنين فى شهر رجب، وكنت معتادة على الصيام، ولكنى قررت عدم الصيام، وجهزت له الطعام، فإذا به يقول يا أمى ان نويت الصيام، ولما عرضت عليه أن يفطر قال «اننى نذرت على نفسى صيام شهر رجب كاملا». ومات ابنى يوم ١٤ رجب وهو صائم.
وفِى هذه الإجازة زار «محمود» جميع أصدقائه وأقاربه وجيرانه، وكأنه يودعهم، وفِى نهاية الإجازة قام بتوديعنا جميعا، وأوصانى على إخوته كما قام بزيارة خطيبته «منى» فى محافظة السويس، وحضر لها مفاجئة بمناسبة عيد ميلادها، فقام بحجز مكان لإقامة عيد ميلادها وأحضر لها هدية قيمة، ففرحت كثيرًا وعندما قالت له لماذا كل هذه التكلفة رد عليها: «يمكن يكون ده آخر عيد ميلاد أكون معاكى فيه، وأنا عاوزك تفتكريني»، فردت عليه «ربنا يحفظك ويخليك لينا»
وجاء أحد أصدقائه لزيارتى بعد استشهاده وقال لى: إن محمود زاره قبل استشهاده وقال له بالحرف الواحد «أنا ها استشهد» فقال له صديقه «ليه ما تقولش كده» فعدد له محمود فضائل الشهداء وأنهم فى أعلى مرتبة بعد النبيين وأنه يرى مقعده من الجنة.
وهذا ما ظهر جليا فى نص آخر بوست كتبه على «فيسبوك»: «نحن قوما حسمنا أمرنا بأيدينا، يا نعيش على أرضها شرفاء أو تحت التراب شهداء»
■  وماذا عن استشهاده؟
ابنى كان متفوقًا فى سلاح المدرعات لذا كان يتم الاعتماد عليه فى الاشتراك فى المداهمات الخاصة بالقضاء على التكفيريين وبؤر الاٍرهاب، ونظرا لجرأته وشجاعته لقب بـ «أسد سيناء» وقال أحد أصدقائه إنه أثناء فترة تواجده بسيناء فى آخر ثلاثة أيام من حياته، استطاع القضاء على ٢٦ إرهابيًا، وفجر أكثر من مخزن للتكفيريين، حيث إنه كان يجيد تفجير العبوات الناسفة عن بعد برشاش الدبابة، وكذا تفكيكها، فأحبط كل مخططات التكفيريين.
ويوم استشهاده، وردت معلومات عن وجود ٧ عبوات ناسفة معدة للانفجار، بمدينة رفح، فاتجه إلى هناك ومعه طاقم عمل، واستطاع كشف ٦ عبوات ناسفة وتفجيرها، وبحث عن العبوة السابعة واتجه لتفكيكها بعد أن نطق الشهادتين وهو صائم، ولكن يد الغدر أصابت ابنى إذ قام التكفيريون بتفجير العبوة السابعة عن بعد، فاستشهد يوم الخميس ١٤ مايو ٢٠١٥.
■  ما هو آخر حوار مع الشهيد؟
- كان ابنى متواصلا معنا إلى أن وصل مقر عمله وبعدها كان قلقا على أخته «منى» لانها ليلة استشهاده كانت بالمستشفى لتضع مولودها وكان يتابعنا لحظة بلحظة وطلب من زوج اخته أن يرسل صورة المولودة بمجرد خروجها للدنيا لأنه لديه شغف لرؤيتها وبالفعل تم إرسال الصورة ولكن للأسف لم يرها ابنى لأنه خرج للمداهمة.
وانقطاع الاتصال معه، وفِى الْيَوْمَ التالى فوجئنا بجرس المنزل يدق فإذا بابنى وعمه يبكيان بصوت عالى وعندما خرجت لاستطلاع الأمر علمت بخبر استشهاد ابنى.
وفى الجنازة طلبت من جميع الحاضرين عدم الصراخ أو العويل كونه يعد اعتراضا على حكم الله، لأن ابنى شهيد، وطلبت من الموجودين إحضار شيكولاتة وقمت بتوزيعها ورميها على الجميع، واستقبلت جنازة الشهيد محمود» بالزغاريد، وظل الكل يردد ذلك، فأصبح فرحا وليس مأتما، حيث قلت للجميع دى زفة ابني، وفرحه على الحور العين، وكأن الله انزل على قلبى الصبر فى تلك اللحظات.
وحدث فى الجنازة ما لم يكن متوقعًا, حيث هطلت الأمطار بغزارة الرغم أننا فى أشهر ارتفعت فيها درجات الحرارة بطريقة لافتة، فظل الكل يردد الشهادتين وكأن السماء بكت لفراق ابني، لذا أطلق عليه الشهيد الذى بكت عليه السماء.