الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

حاربت النزعات الثورية فى الوطن العربى خوفا من تهديد مصالحها أمريكا تفقد سيطرتها على الشرق الأوسط




 
 
أصدر فواز جرجس - الباحث فى شئون الشرق الأوسط والعلاقات الدولية بكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية - كتابا جديدا بعنوان «أوباما والشرق الأوسط: هل هذه هى نهاية الدور الأمريكى»؟، وأوضح فيه علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بالشرق الأوسط.
 
يتكون الكتاب من ستة فصول ويشرح فى الصفحات الأولى كيف انتهجت الإدارة الأمريكية فى الأعوام الستين الأخيرة سياسة محاربة النزعات الثورية فى الشرق الأوسط، خشية تهديدها لمصالح واشنطن. وعلى حد قوله، تعمقت حالة غياب العمل الديمقراطى فى العقود المتتالية فى بلد مثل مصر (من ناصر إلى مبارك) نتيجة الترويج لفكرة عدم نضج الشعوب ثقافيا لممارسة الديمقراطية، وعليه بات العرب يعانون مما وصفه الباحث بـ»التخلف المزمن فى البناء المؤسسى».
 
فقد كانت الديمقراطية بالنسبة لكثير من حكام الشرق الأوسط «فكرة غربية هدامة» لا تتناسب مع مجتمعاتهم والظروف الاجتماعية لشعوبهم، بل كانت أيضا على حد اعتقادهم مصدر تهديد لسلطتهم المطلقة. ويضرب جرجس المثل فى ذلك بجمال عبد الناصر الذى نبذ الديمقراطية الليبرالية، وبخليفتيه أنور السادات وحسنى مبارك اللذين كانا مؤمنين بأن المصريين ليسوا ناضجين بما فيه الكفاية لرسم مستقبلهم. وفى هذا المضمار، ينقل الباحث عن مبارك قوله إبان ذروة الثورة المصرية فى فبراير 2011 للعالم الغربي: «أنتم لا تفهمون الثقافة المصرية وما قد يحدث إذا تنحيت».
 
 ووفقا لجرجس، لعب مبارك طوال فترة حكمه على وتر المخاوف الغربية بإيحائه للغرب بأن الديمقراطية لا تصلح مع الشعوب العربية لأنها قد تعزز شوكة المتطرفين والإرهابيين، وبزعمه أن الديمقراطية لا تصلح مع مصر لأنها قد تفتح منفذا للإخوان المسلمين يصلون من خلاله إلى السلطة.
 
 وفى ليبيا أيضا، نبذ الزعيم الليبى معمر القذافى رغبة الليبيين فى التنعم بالديمقراطية والحرية، واصفا إياهم بـ»المضللين» و»الجهلاء». وحتى فى المملكة العربية السعودية، أدلى مفتى المملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ ببيان إبان ثورات الربيع العربى قال فيه إن المظاهرات لا أصل لها فى الشرع، وإنها لا تجلب الخير بقدر ما تجلب الشر والبلاء.
 
 

 
 ووفقا للباحث، دعم صناع القرار الأمريكيين الأنظمة الديكتاتورية فى الشرق الأوسط لقدرتها على إرساء الاستقرار، وكبح جماح شعوبهم، فقد شاع بين المسئولين الأمريكيين أن المسلمين «غير مهيئين» لممارسة الديمقراطية، وأن العرب حتما لن يحسنوا الاختيار إذا ما أُتيحت لهم فرصة البت فى مسألة ما.
 
وينقل جرجس عن مندوبة الولايات المتحدة السابقة فى الأمم المتحدة جين كيركباتريك قولها ذات مرة عن العرب والديمقراطية: «إن العالم العربى هو المكان الوحيد فى العالم الذى يهز قناعتى بأن الناس سيختارون الأصلح إذا ما أُتيحت لهم فرصة الاختيار».
 
 

 
 وعلى حد قول جرجس، أَجبر الديكتاتوريون فى الشرق الأوسط المسئولين الأمريكيين على دعمهم؛ إذ حذروهم بقولهم: «إما نحن، أو المتطرفون». ولهذا وجدت واشنطن أن من الأصلح والأسلم لها أن تدعم عملاءها فى الشرق الأوسط. ومن ثم تكشفت هذه السياسة الداعمة للديكتاتورية فى ظل الإدارات الأمريكية الجمهورية والديمقراطية على حد سواء، وأثناء الحرب الباردة وبعدها كذلك.
 
ويقول جرجس إن الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش خاض الحرب فى العراق من خلال الربط بين الترويج للديمقراطية واستخدام القوة العسكرية؛ فهو لطالما كان معتقدا أن بإمكان الولايات المتحدة إعادة تشكيل الشرق الأوسط عنوة، دون الإدراك أن ذلك سيفقده شعبيته. لذا توترت العلاقة بين الولايات المتحدة والبلدان الإسلامية إلى حدٍ كبير فى عهد بوش؛ فما جلب الغزو الأمريكى للعراق مثلا سوى البؤس، والخزي، والدمار، والقتل، فضلا عن تدميره اقتصاد البلد وبنيته التحتية.
 
 

علاوة على ذلك، أفضى التدخل الأمريكى فى العراق وأفغانستان إلى عسكرة قطاع مهم من الرأى العام العربى والإسلامى وانقلابه ضد القوة الغربية الإمبريالية، على حد وصف الباحث الذى يوضح ذلك بقوله إن الدعوة إلى المقاومة المسلحة دوى صداها عبر البلدان الإسلامية، حيث استمع العديد من الشباب الغاضب لدعوات الجهاد التى أطلقها أسامة بن لادن، مؤمنين أن الغرب يشن حربا على الإسلام والمسلمين.
 
وبحلول نهاية رئاسة بوش، تحول موقف الكثير من المسلمين حيال السياسة الخارجية الأمريكية إلى عداء صريح. فقد أظهر استطلاع عام أجرى فى عام 2007 أن 79% من المشاركين المصريين، والمغاربة، والباكستانيين، والإندونيسيين يرون أن الولايات المتحدة سعت لـ«إضعاف وتقسيم العالم الإسلامى». ونفس النسبة رأت أن الولايات المتحدة ترغب فى «السيطرة على موارد الشرق الأوسط النفطية»، فيما رأى 64% من المشاركين أنها ترغب فى نشر المسيحية فى الأراضى الإسلامية.
 
أبهج فوز باراك أوباما فى عام 2008 برئاسة الولايات المتحدة الكثيرين فى الشرق الأوسط؛ فيذكر أنه تعهد بالمساعدة فى التفاوض لأجل إحلال السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، والتقرب من النظام الإيرانى المتعنت، وسحب القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان. وأقنع خطابه الذى ألقاه فى القاهرة العديد من المسلمين العاديين بأن فصلا جديدا فى العلاقات بين الولايات المتحدة وهذه المنطقة المضطربة قد بدأ.
 
وعلى حد قول جرجس، جاء أوباما حاملا ميراث تدهور سمعة بلاده فى الشرق الأوسط، وجاء فى وقت كانت فيه الولايات المتحدة متورطة فى التعامل مع ديكتاتوريين يضطهدون شعوبهم. لذا قرر الرئيس أن يضع لنفسه أجندة جديدة تختلف عن تلك التى كانت تخص أسلافه، مؤكدا أنه لن يفرض على الدول الأخرى القيم الأمريكية، وأن سياسته الخارجية فى الشرق الأوسط ستركز على إرساء الاستقرار، والبحث عن أرضية مشتركة تحقق مصالح كافة الأطراف.
 
 

 
ولكن بعد ما يقارب من أربع سنوات يردد جرجس خيبة أمل الكثيرين التى نتجت عن فشل الرئيس فى الارتقاء من لغته الخطابية السامية إلى إحداث تغيير حقيقي. فبعض المسئولين الأمريكيين -على حد قوله- رأوا أن هجمات الطائرات بلا طيار فى اليمن وأماكن أخرى ولدت الكثير من الشباب الراديكاليين فيما أبادت آخرين، وأن واشنطن فشلت فى تقديم المساعدة الملموسة إلى حكومات جديدة فى خضم التحولات الصعبة.
 
وينوه الباحث إلى أن أوباما بدا معاديا للعالم العربى عندما هدد باستخدام حق النقض (الفيتو) ضد أى محاولة لإقامة دولة فلسطينية، كما أن تساهله مع دول معادية وعجزه عن الوفاء بالتزاماته تجاه المنطقة بدأ يهز صورته شيئا فشيئا.
 
ومن وجهة نظر جرجس، تكمن المشكلة الرئيسية فى أن «واشنطن غيرت أوباما أكثر مما غير هو فيها»، ويتجلى ذلك فى فشله فى التوسط فى المحادثات بين إسرائيل والفلسطينيين. فبعد ضغطه فى البداية على رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتانياهو لوقف بناء المستوطنات، خفف أوباما من تدخله فى القضية خوفا من التكلفة السياسية التى قد تعود عليه وعلى بلده بسبب ذلك.
 
وربما أفلح الرئيس الأمريكى بنأيه بنفسه عن سياسات سلفه فى البيت الأبيض، إلا أن موقف واشنطن من التطورات الجارية فى المنطقة يدل على أن الفارق شاسع بين الخطاب الإنشائى والواقع الفعلى. وحسب تحليل جرجس، يبدو أن أوباما آثر ألا يغامر فى السياسة الخارجية وخاصة فى الشرق الأوسط، فى الوقت الذى تثقل كاهله تركة داخلية ثقيلة تتعلق بالاقتصاد، وبتراجع التفرد الأمريكى بالقوة فى العالم لصالح قوى جديدة فى مقدمتها الصين.
 
وكما قال الباحث فى كتابه: «بعد أكثر من ثلاث سنوات فى الحكم، تظهر السياسة الخارجية لإدارة أوباما فى الشرق الأوسط أنها استمرار للماضى أكثر منها تغييرا حقيقيا. ويتجلى أن أوباما تبنى سياسة واقعية-وسطية تتسق مع التوجه السائد للسياسة الخارجية الأمريكية».
 
 ويُذكر أنه فى الوقت الذى كانت تتهاوى فيه الأنظمة العربية، كان أوباما يصب تركيزه على جنوب آسيا، حيث كانت باكستان تخوض حربا بالوكالة مع الهند على حساب المصالح الأمريكية. وبحسب جرجس، طلب الرئيس الأمريكى من كبار أعضاء الإدارة وقتئذ تعقب أسامة بن لادن، ومن ثم بات تقرب أوباما من العالم الإسلامى مجرد وسيلة لإعادة بناء سمعة بلده المدمرة، ولإعادة بناء مكانتها فى العالم، ولدحر طالبان والقاعدة.
 
 

 ومع ذلك يرى جرجس أن مشاكل الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط تتجاوز ما طرأ من موجة الربيع الديمقراطى العربي، فثمة تبعات مهمة للفشل فى أفغانستان، ومن المحتمل -وفقا لتقديراته- أن تصل تكلفة الحرب على الإرهاب إلى سقف الخمسة تريليونات دولار، وهو ما سيكبد الاقتصاد الأمريكى كثيرا.
 
ويقول جرجس إن نهاية العالم الأحادى القوة وتعدد مراكز الثقل الإقليمى والدولى قد يفتح الباب أمام ثلاث دول لتملأ الفراغ الناجم عن تراجع النفود الأمريكى فى الشرق الأوسط؛ وهى إيران وتركيا، وفى مرحلة لاحقة مصر بعد أن تستقر أوضاعها الداخلية. ومن مظاهر توسع الدول الثلاث فى محيطها الإقليمى امتلاكها أجندات مستقلة للسياسة الخارجية ومصالح تغاير المصالح الأمريكية.
 
وعليه لا يستبعد الباحث أن ينتقل مركز القوة والفعالية من القوى الكبرى إلى دول الشرق الأوسط نفسها بفعل عوامل عديدة من بينها الرأى العام العربى والاتجاهات الأيديولوجية التى سوف تحتم على الحكومات أن تصغى إلى رغبات الشعوب فى صناعة القرار بشكل مستقل.
 
وخلاصة الكتاب، كما يقول مؤلفه فى ختامه: «إن محنة الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط هى نتاج مرير لأكثر من نصف قرن من الفشل الدائم فى رؤية المنطقة من الداخل، والحد من تأثير المصالح الخاصة عليها.. وعليه ربما تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد وصلت إلى نقطة نهاية دورها فى الشرق الأوسط».