الإثنين 13 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

ذا النون المصرى(7)




مع مرور الأيام وتعاقب الزمان يظل التاريخ يحمل لمصر فكرها وفقهها الوسطى الذى أنارت به الدنيا فكانت مهدا للوسطية من خلال فقائها الذين حملوا صحيح الدين ونشروا وسطيته، حتى أصبحت مصر مهدا لتلك الوسطية، رغم المحاولات التى تتم من قبل جماعات وتيارات لتشويه الفكر الدينى المصرى إلا أن جميعها تبوء بالفشل بفضل فقهاء الوسطية المصريين الذين جعلوا من بلدهم أبية على التشدد والتطرف
فى المغرب:
 
القرآن حديثه والذكر رفيقه
 
قال يوسف بن الحسين، سمعت ذا النون يقول:
 
«وُصِفَ لى رجل بالمغرب.. وذُكر لى من حكمته وكلامه ما حملنى على لقائه، فرحلت إليه فأقمت على بابه أربعين يوماً على أن يخرج من منزله إلى المسجد ويقصدنيى فكان يخرج وقت كل صلاة ويصلى ويرجع كالوَالِه لا يكلم أحدا.
 
قلت له يوماً:
 
يا هذا، إنى مقيم هنا منذ أربعين صباحاً، لاأراك تكلمنى؟
 
فقال لى:
 
هذا لسانى سبع إن أنا أطلقته أكلنى.
 
فقلت له: عظنى رحمك الله موعظة أحفظها عنك؟
 
قال:
 
وتفعل؟
 
قلت: نعم إن شاء الله.
 
قال:
 
لا تحب الدنيا، وعد الفقر غنى والبلاء نعمة من الله، والمنع من الله عطاء، والوحدة مع الله أُنسا، والذل عزاً، والحياة موتاً، واليأس غفلة، والطاعة حرفة، والتوكل معاشاً، والله لكل شدة عُدة.
 
ثم مكثت بعد ذلك شهرا لا يكلمنى فقلت: رحمك الله إنى أريد الرجوع إلى بلدى فإن رأيت أن تزيدنى فى الموعظة؟
 
فقال:
 
أعلم أن الزهد فى الدنيا: قُوتُه ما وجد، ومسكنه حيث أدرك، ولباسه ما ستره، الخلوة مجلسه، والقرآن حديثه، والله الجبار، العزيز آنيسه، والذكر رفيقه، والصمت جنبه، والخوف سجيته، والشوق مطيَّته، والاعتبار فكره، والصبر وساده، والحكمة كلامه، والعقل دليله، والعلم خليله، والجوع إدامه، والبكاء دأبه.
 
قلت: بِمَ يتبين الزيادة والنقصان؟
 
قال:
 
عند المحاسبة للنفوس.
 
بم عرفت الله؟:
 
وروى أبو نعيم فى «الحلية» عن سعيد بن عثمان، قال:
 
سمع ذا النون يقول:
 
«وُصِفَ لى رجلٌ صالح فقصدته فأقمت على بابه أربعين يوماً، فلما كان بعد ذلك رأيته، فلما رآنى هرب منى، فقلت له: سألتك بالله، بم عرفت الله؟.. وبأى شىء تعرَّف إليك الله حتى عرفته؟
فقال لى:
 
نعم، رأيت لى حبيبا إذ قربت منه قربنى وأدنانى، وإذا بعدت عنه صاح بى ونادانى، وإذا قمت بالفترة رغبتى ومنَّانى، وإذا علمت بالطاعة زادنى وأعطانى، وإذا عملت بالمعصية صبر علىَّ وتأنَّانى، فهل رأيت حبيباً مثل هذا؟.. انصرف عنى ولا تشغلنى».
 
إن لله عباداً لو أقسموا على الله لأَبَرَّهُم:
 
حدثنا أبو جعفر محمد بن عبدالملك بن هاشم، قال:
 
قلت لذى النون:
 
صف لنا من خيار ما رأيت، فذرفت عيناه وقال:
 
«ركبنا مرة فى البحر نريدة جدة، ومعنا فتى من أبناء نيف وعشرين سنة، قد ألبس ثوباً من الهيبة، فكنت أحب أن أكلمهفلم استطع، بينما نراه قارئاً، وبينما نراه صائماً، وبينما نراه مسبَّحاً، إلى أن رقد ذات يوم، ووقعت فى المركب تهمة، فجعل الناس يفتش بعضهم بعضاً إلى أن بلغوا الفتى النائم. فقال صاحب الصُّرَّة:
 
لم يكن أحد أقرب إلىَّ من هذا الفتى النائم.
 
فلما سمعت ذلك قمت فأيقظته، فما كان منه إلا أن توضأ للصلاة وصلى أربع ركعات، ثم قال:
يا فتى، ما تشاء؟
 
فى نواحى الشام:
 
ومن وقائعه فى سياحاته ما حكم قال: بينما أنا أسير فى نواحى الشام إذ وقعت على روضة خضراء وإذا بشاب يصلى تحت شجرة فغسلمت فأوجز فى صلاته ولم يرد ثم كتب بأصبعه فى الأرض:
منع اللسان من الكلام لأنه سبب الفساد وجالب الآفات
 
فإذا نطقت فكن لربك ذاكرا وإذا سكت فعد موتك أت
 
قال: فبكيت وكتبت بأصبعى فى الأرض:
 
وما من كاتب إلا سيبلى ويبقى الدهر ما كتبت يداه
 
فلا تكتب بكفك غير شىء يسرك فى القيامة أن تراه
 
فصاح الشاب فمات فقمت لأجهزهوأدفنة وإذا بقائل: خل عنه فإن الله وعده ألا يتولاه إلا ملائكته فألتفت فلم أره.
 
فى بعض سياحاته:
 
وقال: بينما أنا أسير فى بعض سياحاتى إذا أنا بصوت حزين كئيب موجع القلب أسمع الصوت ولا أرى الشخص وهو يقول:
 
سبحان مفنى الدهور سبحان مخرب الدور سبحان باعث من فى القبور سبحان مميت القلوب.
فأتبعت الصوتا فإذا بإنسان يقول:
 
سبحان من لا يسع الخلق إلا ستره سبحانك ما ألطفك بمن خالفك وأوفاك بعهدك سبحانك ما أحكمك على من عصاك.
 
ثم قال:
 
سيدى بحلمك نطقت وبفضلك تكلمت فيا إله من مضى قبلى ومن يكون بعدى بالصالحين ألحقنى ولأعمالهم وفقنى.
 
ثم قال:
 
إن الزهاد والعباد نزل بهم الزمان فأبلاهم وحل بهم البلاء فأفناهم فهل أنتظر إلا ما أصابهم.. فأنصرفت وتركته باكيا.
 
على جبل المقطم:
 
وقال: وصف لى رجل بجبل المقطم فقصدته فمكثت عنده أربعين يوما سألته فقلت: فيم النجاة؟
قال: فى التقوى والمراقبة.
 
قلت: زدني.
 
قال: فر من الخلق ولا تأنس بهم.
 
قلت: زدني.
 
قال: إن لله عبادا أطاعوه فسقاهم كأسا من محبته فهم فى شربهم عطاش وفى عطشهم أروياء.. تركنى.
 
المُناجى
 
لقد عرف ذا النون المصرى بمناجاته لربه والمناجاة لله سبحانه تختلف باختلاف درجات الناس الروحية وهى تتناسق عند كل شخص مع درجته فى معراجه إلى الله سبحانه وتعالى.
 
إن مناجاة الذين يدءوا معراجهم إلى الله تعالى عن طريق الخطوة الأولى وهى التوبة إنما تكون فى جو:
 
«ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين».
 
تكون فى جو هذه الأية بمعناها المألوف أى أنه بعد ارتكاب المعصية يحاول إزالتها أو إزالة أثارها بالتوبة الصادقة.
 
ونقول: بمعناها المألوف لأن هذه الآية الكريمة يقولها المرتكب للمعصية فتكون بمعنى ويقولها الصالحون فيتلون معناها بلون آخر ويقولها الصديقون الذين لا يرتكبون المعاصى وذلك لأنهم صدقوا مع الله واستقاموا على الطريقة فيأخذ المعنى شكلا آخر.
 
ويقولها الأنبياء والمرسلون فلا يكون بينها وبين المعصية المألوفة صلة من قريب أو بعيد.
لقد طلب أبو بكر الصديق رضى الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من الدعاء ينتفع به فعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء الآتى:
 
«اللهم إنى ظلمت نفسى ظلما كثيرا (وفى رواية: كبيرا) ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لى مغفرة من عندك، وأرحمنى إنك أنت الغفور الرحيم».
 
وهذا الدعاء إنما هو دعاء من جو التوبة، ولكنه على لسان أبى بكر رضى الله عنه لا يمت بسبب - من قريب أو من بعيد - إلى جو المعاصى التى تحدث من العامة أو الجهلة.
 
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
 
«يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه، فإنى أتوب إليه واستغفره فى اليوم مائة مرة».
وتوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما هى توبة عبادة، تتصل بكثرة الحسنات، ولا صلة لها بالسيئات.
 
ولقد كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما روى الشيخان، بسندهما - عن أبى موسى عبد الله بن قيس رضى الله عنه:
 
«اللهم أغفر لى خطيئتى، وإسرافى فى أمرى، وما أنت أعلم به منى. اللهم أغفر لى جدى وهزلى، وخطئى وعمدى، وكل ذلك عندى. اللهم أغفر لى ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به منى، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شىء قدير».
 
وهذا الدعاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمثاله، إنما هو عبادة لله سبحانه فى صورة من صور العبادة، وهى صورة التذلل والعبودية، والابتعاد عن كل صور الفخر والكبرياء، وادعاء الكمال.
 
وجو التربة - بحسب هذا الشرح الذى شرحناه - يختلف باختلاف الذين يناجون الله، ويتسامى هذا الجو شيئا فشيئا، ويسير من التوبة عن المعاصى إلى التوبة التى هى عبودية، تلك التى إذا أكثر الإنسان منها أدخلته فى رحاب حب الله له:
 
«إن الله يحب التوابين».
 
ومناجاة أهل الورع إنما هى جو:
 
«اللهم أغننا بحلالك عن حرامك».
 
وهذا الدعاء بمعناه الحرفى هو من سمات أهل الورع، وعادة يكون فى النواحى المادية، ولكن معناه أيضا يخضع لألوان كثيرة من المعانى بحسب القائلين، ويتسع المعنى فيشمل الوجدانيا: خطرات النفس وهمسات الضمير.
 
ومناجاة الزاهدين إنما تكون تضرعا إلى الله سبحانه حتى ييسر لهم التحقق بمعنى الآية الكريمة:
«لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم».
 
فإذا وجد التحقق بمعنى الآية الكريم وجد الزهد.
 
وقد يكون من مناجاة الزاهدين طلب السعة فى الرزق بها عن أخرى».
 
ولكن هذا الدعاء يكون فى جو:
 
«لكيلا تأسوا عن ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم».
 
وأبو الحسن الشاذلى الذى كان يقول هذا الدعاء كان يقول أيضا عن الدنيا:
 
«اللهم اجعلها فى أيدينا ولا تجعلها فى قلوبنا».
 
وهذا يتماشى مع جو الآية الكريمة.
 
ولا يتنافى الغنى والزهد - إذن - حينما يتحقق الإنسان بالجو الشريف للآية القرآنية الكريمة.
 
ومناجاتة المتوكلين تكون فى جو الآية الكريمة:
 
«ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير».
 
وهم يوقنون بالحقيقة القرآنية:
 
«ومن يتوكل على الله فهو حسبه».
 
وأجواء المناجاة لا تكاد تحد:
 
منها جو مؤمن آل فرعون، وهو جو:
 
«وأفوض أمرى إلى الله إن الله بصير بالعباد».
 
وثمرة هذا الجو إذا تحقق به الإنسان هو ما ذكره الله تعالى بقوله:
 
«فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب».
 
ومنها الجو اليونسى:
 
«لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين».
 
وهو جو توحيد «لا إله إلا أنت وتنزيه سبحانك»، ونسبة الظلم بمعناه العام إلى النفس «إنى كنت من الظالمين».
 
ومنها جو الرضا:
 
«رضى الله عنهم ورضوا عنه».
 
ومنها جو الحب:
 
«يحبهم ويحبونه».
 
وأسمى الأجواء فى المناجاة - على الإطلاق - إنما هو جو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جو «الإسلام»: إسلام النفس لله.
 
إنه جو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى عبر الله سبحانه وتعالى عنه صراحة فى القرآن الكريم قائلا:
 
«قل إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين».
 
إنه الجو الذى بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن الإسلام فقال:
 
«إن يسلم لله قلبك».
 
فإذا ما أسلم الإنسان قلبه لله انطوت فى ذلك كل المقامات: التوبة الدائمة، والورع، الزهد، التوكل، التفويض، الفناء، المحبة.