الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

أمريكا وأزمة السلطة العالمية




كتب - صلاح أحمد نويرة

يعد تراجع القوة الأمريكية هاجسا عميقا أرّق أعمدة الفكر الاستراتيجى الأمريكى منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، كان بول كينيدى أول من جهر به فى كتابه «صعود وهبوط القوى العظمى» حول وصول الولايات المتحدة لنقطة «التمدد الزائد» لتبدأ بعدها رحلة التراجع.
غير أن انهيار الاتحاد السوفيتى فى مطلع التسعينيات كتم هذا الهاجس وأيقظ نقيضًا له اختصره فرانسيس فوكوياما فى «نهاية التاريخ»، واكتسح الشارع الرأسمالى إحساس بالنصر النهائي، لكنه لم يلبث أن ظللته غيوم الشكوك تدريجيًا لتطمسه تمامًا مع انفجار الأزمة المالية العالمية ومركزها الولايات المتحدة عام 2008، ليعود الألق من جديد لنظريتين، أولاهما: نظرية بول كينيدى من ناحية والأخرى نظرية الدورات الاقتصادية التى طرحها نيكولاى كوندراتيف فى عشرينيات القرن الماضي.
ذلك يعنى أن الولايات المتحدة انتقلت من «يقين» القوة إلى «الشك» فى هذه القوة خلال ثلاثة عقود تقريبًا، وأصبح الهم لمراكز الدراسات والمفكرين الاستراتيجيين فى الولايات المتحدة هو التحقق من مدى صحة أى من الحالتين.
منافسون جدد
ترتب على هذه المناقشات سؤال آخر، هو: ما هى القوى المرشحة لتأخذ دور الولايات المتحدة؟ ثم ما هى الاستراتيجية الأنسب للولايات المتحدة للتعامل مع القوى الصاعدة إذا اتجه المسار نحو انتصار سيناريو «الشك» فى القوة والمكانة؟
يشكّل كتاب «رؤية استراتيجية»، لمستشار الأمن القومى الأمريكى السابق والأكاديمى المرموق زبيجنيو بريجنسكي، مساهمة مهمة فى إطار هذا الجدل الاستراتيجى حول بنية النظام الدولى القادم والقوى المركزية فيه، وحول دور الولايات المتحدة فى عالم كهذا. ويمكن تحديد الملامح الكبرى للعالم خلال المدى الزمنى القصير والمتوسط (2025 وما بعدها) طبقًا لدراسة بريجنسكى فى الآتي:
لن تكون الولايات المتحدة متمتعة بذات المكانة الدولية والتفرد بالزعامة خلال الفترة المشار لها، نظرًا للتوزع الجيوسياسى الذى يصيب مؤشرات القوة المختلفة، فإذا كان المدى الجغرافى للغرب قد تقلص (بفعل انكماش الظاهرة الاستعمارية) فإن تمدده الجيوسياسى والاقتصادى تواصل. وما يؤشر على توزع القوة هو تحويل مجموعة الثمانى إلى مجموعة العشرين، أى أن المشاركين فى صنع الاتجاهات الكبرى تزايدوا، وهو ما يجعل القدرة على الوصول لقرار دولى أكثر تعقيدًا. علاوة على أن إعادة توزيع القوة تسير بوتيرة أسرع مما عرفته النظم الدولية التاريخية، فخلال القرن الممتد من 1910-2010 تغير توزيع القوى خمس مرات، وسيؤدى ذلك إلى إعادة النظر فى إجراءات التصويت فى المنظمات الدولية مثل مجلس الأمن والبنك والصندوق الدوليين.
ويرى أن دور الغرب (المكون من الولايات المتحدة وأوروبا) فى النظام الدولى المفترض مرهون بسلوك الولايات المتحدة، لاسيما أنها تتمتع «بقوة الجذب المعنوية والمادية».
إذا كانت الصين هى القوة الأكثر تسارعًا فى الصعود، فإنها لن تتمكن من تحمل أعباء القيادة -بل ليست متعجلة لهذا-، وهو ما سيجعل بنية وتفاعلات النظام الدولى أقرب للنمط «الفوضوي»، وتتعزز هذه الفوضى بالتنافس فى آسيا بين القوى المركزية وعلاقات العداء بينها (الهند والصين وباكستان) من ناحية و(اليابان والصين وكوريا) من ناحية أخرى، إضافة الى عدم تماسك الاتحاد الأوروبى وتركه لأعباء الحفاظ على موقع الغرب فى النظام الدولى على كاهل الولايات المتحدة.
لمواجهة كل ما سبق، على الولايات المتحدة أن تعمل على ترتيب أوضاعها الداخلية للتمكن من التفاعل الذكى مع التحديات الكثيرة وغير المسبوقة التى سيشهدها المجتمع الدولي، ويرى بريجنسكى أن أهم التحديات التى تواجه الولايات المتحدة تتمثل في: الديون (60% من الناتج المحلي)، والتفاوت الاجتماعى (1% يمتلكون 33,8% من الثروة القومية مقابل 50% من السكان يمتلكون 2,5% من الثروة القومية)، وفساد النزعة المادية، ونظام مالى قائم على المضاربة الجشعة، ونظام سياسى مستقطب، وجمهور أمريكى لا يعرف شيئًا عن العالم (75% منهم لا يعرف مكان إيران على الخريطة)، وهو ما يسهّل للسياسيين التلاعب به كما حدث فى فترة الرئيس بوش.
لكنه يرى بالمقابل عناصر قوة فى أمريكا، مثل: قوة اقتصادية إجمالية، وطاقة إبداعية، ودينامية سكانية، والقدرة على التعبئة، وقاعدة جغرافية، وجاذبية ديمقراطية. غير أن بريجنسكى يشير فى موضع آخر من دراسته لمشكلة أخرى للولايات المتحدة وهى صورتها التى شوهتها تدخلاتها العسكرية الفجة بخاصة فى العراق وأفغانستان، ناهيك عن فشلها فى حل الصراع العربي-الإسرائيلى وتبنيها لكثير من السياسات الإسرائيلية.
إن دور الجماهير وما تفعله وسائل الاتصال والمواصلات فى الترابط بين الثقافات والأحداث يستوجب التنبه لتداعيات ذلك على المسرح الدولي. وهو ما جعل الوقائع وتداعياتها تأخذ طابع «قفز الضفادع» فى انتقالها من مكان لآخر، ويكفى مراقبة تداعيات الربيع العربى وانتقاله من دولة لأخرى.
إن المنطقة الأكثر أهمية من الناحية الجيوسياسية خلال الفترة المقبلة ستتمحور حول «أوراسيا».
انتهاء دور الحملات العسكرية المباشرة كنتيجة من نتائج الصحوة السياسية العالمية -دور الجماهير- التى جعلت التكلفة أكبر كثيرًا من المراحل السابقة.
أن الدول الصغرى ستعانى من ضغوط القوى الإقليمية التى تجاورها، ويشير فى هذا الجانب إلى نماذج مثل جورجيا (التى سيزداد النهم الروسى نحوها فى حالة تراجع الولايات المتحدة)، وأفغانستان التى يؤدى الانسحاب الأمريكى منها لتزايد احتمالات الحرب بين الهند وباكستان عليها، ذلك يعنى أن النزاعات الإقليمية قد تشهد تزايدًا بخاصة فى آسيا الشرقية والجنوبية.
يناقش بريجنسكى ما يسميه مشكلة المشاعات العالمية والتى قسمها إلى نمطين، هما:
الأول: المشاعات الاستراتيجية (البحار والفضاءات الإلكترونية والانتشار النووي.. إلخ).
الثاني: هو المشاعات البيئية (الموارد المائية والمناخ وتغيراته)، ويؤدى تراجع الولايات المتحدة إلى فتح المجال أمام صراعات بين الدول على هذه المشاعات.
 المخرج الاستراتيجي
بعد هذا التوصيف للملامح الكبرى، يجتهد بريجنسكى فى رسم استراتيجية بلاده لتحقيق مصالحها فى إطار تلك الملامح، جاعلاً من شكل العلاقة مع الصين الركيزة الكبرى التى تحدد قسمات هذه الاستراتيجية، وتتمثل هذه القسمات فى الآتي:
التطوير الداخلى وعدم الانغماس فى تورطات خارجية هما مدخل الحفاظ لأمريكا على مكانتها، وتعزيز علاقات التعاون مع الآخرين.
أن عدم تسوية النزاع شرق الأوسطى سيجعل «المصالح الأمريكية تعانى كثيرًا، وسيصبح مصير إسرائيل فى بيئة دولية معادية كهذه موضع شك فى آخر المطاف».
ليكون هناك دور كبير للولايات المتحدة فى أوراسيا لابد من «غرب جديد» يضم الاتحاد الأوروبى وأمريكا، إلى جانب دولتين أخريين، هما: روسيا (التى لا تقبل أن يتم التعامل معها كأى دولة عادية، ولكنها عاجزة عن فرض نفسها كدولة غير عادية)، وتركيا (التى تتأورب كروسيا)، مع تشجيع التعاون مع الصين وإندونيسيا والهند.
أما السياسة الروسية فإن بدائلها تتمثل في: تحالف مع الصين، أو إنجاز وحدة سلافية، أو القدرة على تحقيق توجهات الرئيس فلاديمير بوتين المتمثلة فى بناء علاقة روسية-أوروبية بعيدة عن أمريكا.
ويحذر بريجنسكى من علاقة روسيا مع الناتو بسبب ما ينطوى عليه ذلك من مخاطر، ولكنه يُبدى آمالاً معلقة على نخب «التغريب» فى روسيا، ويرى أن علاقة روسية-أوروبية بعيدة عن أمريكا لا يُقدّر لها التقدم والتطور.
إن الصعود الصينى يواجَه بقلق روسى وهندى ويابانى من هذا الصعود، وهو أمر من المفروض أن تسعى الولايات المتحدة للعب دور «المنظم» له لكى لا يصل إلى مرحلة مواجهات خطرة. ويعتقد أن المخاطر من الصين تأتى من ناحيتين مستقبلاً، وهما: تدنى مستوى القيادة فيها أولاً وتنامى النزعة القومية الصينية ثانيًا، ويرى أن أغلب المؤشرات لا تعزز النقطة الأولى بينما ثمة ما يشير للنقطة الثانية لاسيما إذا تبنته النخبة العسكرية الصينية.
على الولايات المتحدة التسليم بتفوق جيوسياسى للصين فى آسيا، مع العمل الأمريكى من خلال الشركاء الآسيويين لتطوير العلاقة البنّاءة مع الصين.
تعزيز العلاقة مع الهند دون الوصول بها لمرحلة استفزاز الصين.
وعند تناوله للمنطقة العربية فهو يراها فى إطار أوسع ضمن غرب آسيا، ولكنه يشير لبعض الجوانب فى هذا السياق على النحو التالي:
أن تراجع الولايات المتحدة فى منطقة الشرق الأوسط الكبير يقود لتكثيف العداء لإسرائيل، ويؤدى لتراجع حل الدولتين للصراع العربي-الإسرائيلي.
يقود التراجع الأمريكى فى المنطقة إلى تنامى التنافس الإيراني-الإسرائيلي، وقد يدفع أمريكا للتدخل بضربات جوية لإيران، وهو ما قد يؤدى لفوائد لروسيا والصين، لكنه سيقود لتحويل إسرائيل إلى دولة فصل عنصرى مما يثير الشكوك حولها.
قد يقود تراجع الولايات المتحدة إلى بحث دول الخليج عن سند بديل، وقد تكون الصين هى المتطلعة لذلك وهو ما قد يُحدث تحولاً عميقًا فى المنطقة، ولكن التراجع الأمريكى لن يقود لتغير فى مستوى النشاط «الإرهابي» فى المنطقة أو العالم.
 ألغاز بلا حلول
اللافت للنظر فى هذه الدراسة أن بريجنسكى يحدد الخطوط العريضة لاستراتيجية الولايات المتحدة فى تعاملها مع كل المناطق (بل يسهب فى شرح العلاقة مع المكسيك فى مجال الهجرة والمخدرات، ويقدم توصيات لمواجهة هذه المشكلات مع هذه الدولة)، ولكنه يتجنب تمامًا تقديم تصور عام أو مفصل لكيفية تسوية النزاع العربي-الإسرائيلى رغم خطورة وأهمية هذا النزاع وهذه المنطقة، فهل كان ذلك «سهوًا» أم «عجزًا فكريًا» أم «نية مبيتة» لكى يتجنب أية انتقادات من جهات مختلفة؟
ويبدو لى أن سيناريوهات المستقبل فى دراسة بريجنسكى تنتمى للسيناريوهات المستقبلية المرغوبة أو المفضلة (Preferable)؛ فهو لم يعطِ إيقاع التغير الأهمية الكافية عند رسمه لملامح الصورة المستقبلية؛ فالصين قفزت سبعة أضعاف فى نصيبها من الناتج العالمى من 1980-2010، بينما بقيت الولايات المتحدة مكانها تقريبًا خلال نفس الفترة، فلو أسقطنا إيقاع التغير هذا على المستقبل فإن التوازن فى كثير من المناطق لن يكون بالشكل الذى رسمه بريجنسكي؛ إذ إنه بنى الصورة المستقبلية استنادًا للمعطيات الحالية مفترضًا أن المسافة الفاصلة بين القوى ستبقى ذاتها دون حساب إيقاع التغير (acceleration)، كما أن التراجع يرتبط بتدنى أداء آليات التكيف مع القوى المتراجعة بينما تزداد إيقاعات التكيف للقوى الصاعدة، ويكفى النظر مثلاً فى حجم العلاقات التجارية للولايات المتحدة مع الأقاليم الرئيسية فى العالم، ومقارنتها مع تلك التى للصين، ليتبين أثر ذلك فى عملية التراجع والتقدم لكل منهما.
ولعل الواقعة التى أوردها بريجنسكى بخصوص حواره مع الرئيس الصينى تكشف درجة التعقيد فى هذه المسألة؛ فقد قال للرئيس الصيني: إن أمريكا تتراجع وأنتم تتقدمون، فقال له الرئيس الصيني: «أرجوكم لا تتراجعوا بسرعة!».
من ناحية أخرى، يبدو لى أن المنظومة المعرفية لبريجنسكى لا تزال أسيرة قواعد الحرب الباردة، ولكنه أحل الصين محل روسيا رغم ميله لإدارة العلاقة مع الصين على أنها لعبة غير صفرية فى بعض الجوانب وبعض الأحيان.