الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

إبداع




لوحات- غوستاف كاييبوت
 
فى ذكرى نازك الملائكة

 شعراؤنا شموس فى سماء الإبداع ينيرون لنا ببصيرتهم وبصرهم طريقنا ويخبرونا ما لم نخبره فيما فاتنا من أمورنا الحياتية فهم بمثابة توثيق وشهادة على عصرهم ونحن نخصص هذه المساحة من الإبداع للاحتفال بالأديبة والشاعرة العراقية نازك الملائكة، وهى من مواليد 23 أغسطس 1923، كانت من أوائل الشعراء فى العالم العربى الذين كتبوا الشعر الحر، ولها دواوين كثيرة منها: عاشقة الليل، شظايا الرماد، شجرة القمر وغيرها، وهى إلى جانب كونها شاعرة رائدة فإنها ناقدة متميزة، وكانت وفاتها فى عام 2007 بعد رحلة طويلة مع المرض.
يصاحب القصائد لوحات للفنان الفرنسى العالمى غوستاف كاييبوت وهو من مواليد 19 أغسطس 1848 وتوفى فى عام 1890، وكان أحد تلاميذ المدرسة الواقعية إلا أنه فى أواخر حياته تأثر  بجماعة «الانطباعيين» الفنية وأصبح أحد أعضائها، وكانت لوحاته هى الأقرب للواقعية من بين المجموعة الاخيرة لأعماله، كما عُرف كاييبوت باهتمامه بالتصوير الفوتوغرافى أيضا.
 

 
النهر العاشق
 
أين نمضى؟ إنه يعدو إلينا
راكضًا عبْرَ حقول القمْح لا يَلْوى خطاهُ
باسطًا فى لمعة الفجر ذراعَيْهِ إلينا
طافرًا، كالريحِ، نشوانَ يداهُ
سوف تلقانا وتَطْوى رُعْبَنا أنَّى مَشَيْنا
إنه يعدو ويعدو
وهو يجتازُ بلا صوتٍ قُرَانا
ماؤه البنيّ يجتاحُ ولا يَلْويه سَدّ
إنه يتبعُنا لهفانَ أن يَطْوى صبانا
فى ذراعَيْهِ ويَسْقينا الحنانا
لم يَزَلْ يتبعُنا مُبْتسمًا بسمةَ حبِّ
قدماهُ الرّطبتانِ
تركتْ آثارَها الحمراءَ فى كلّ مكانِ
إنه قد عاث فى شرقٍ وغربِ
فى حنانِ
أين نعدو وهو قد لفّ يدَيهِ
حولَ أكتافِ المدينة؟
إنه يعمَلُ فى بطءٍ وحَزْمٍ وسكينة
ساكبًا من شفَتَيْهِ
قُبَلاً طينيّةً غطّتْ مراعيْنا الحزينهة
ذلكَ العاشقُ، إنَّا قد عرفناهُ قديما
إنه لا ينتهى من زحفِهِ نحو رُبانا
وله نحنُ بنَيْنا، وله شِدْنا قُرَانا
إنه زائرُنا المألوفُ ما زالَ كريما
كلَّ عامٍ ينزلُ الوادى ويأتى للِقانا
نحن أفرغنا له أكواخنا فى جُنْح ليلِ
وسنؤويهِ ونمضي
إنه يتبعُنا فى كل أرضِ
وله نحنُ نصلّي
وله نُفْرِغُ شكوانا من العيشِ المملِّ
إنه الآن إلهُ
أو لم تَغْسِل مبانينا عليه قَدَمَيْها؟
إنه يعلو ويُلْقى كنزَهُ بين يَدَيها
إنه يمنحُنا الطينَ وموتًا لا نراهُ
من لنا الآنَ سواهُ؟
 

 
على وقع المطر
 
 
أمطرى، لا ترحمى طيفى فى عمق الظلام
أمطرى صبّى عليّ السيل، يا روح الغمام
لا تبالى أن تعيدينى على الأرض حطام
وأحيلينى، إذا شئت، جليدا أو رخام
اتركى ريح المساء الممطر الداجى تجنّ
ودعى الأطيار، تحت المطر القاسى، تئنّ
اغرقى الأشجار بالماء ولا يحزنك غصن
زمجرى، دوّى، فلن أشكو، لن يأتيك لحن
أمطرى فوقى، كما شئت، على وجهى الحزين
لا تبالى جسدى الراعش، فى كفّ الدجون
أمطرى، سيلى على وجهى، أو غشّى عيوني
بللى ما شئت كّفيّ وشعرى وجبيني
أغرقى، فى ظلمة الليل، القبور البالية
والطمى، ما شئت أبواب القصر العالية
أمطرى، فى الجبل النائى، وفوق الهاوية
أطفئى النيران، لا تبقى لحيّ باقية
آه ما أرهبك الآن، وقد ساد السكون
غير صوت الرّيح، فى الأعماق، تدوى فى جنون
لم تزل تهمى، من الأمطار، فى الأرض، عيون
لم يزل قلبى حزيناً، تحت أمواج الدجون
أيّها الأمطار، قد ناداك قلبى البشرىّ
ذلك المغرق فى الأشواق، ذاك الشاعرىّ
اغسليه، أم ترى الحزن حماه الأبدىّ
إنه، مثلك يا أمطار، دفّاق نقيّ
ابدا يسمع، تحت الليل، وقع القطرات
ساهما يحلم بالماضى وألغاز الممات
يسأل الأمطار: ما أنت؟ وما سرّ الحياة؟
وأنا، فيم وجودى؟ فيم دمعى وشكاتى؟
أيها الأمطار ما ماضيك؟ من أين نبعت؟
ابنة البحر أم السحب أم الأجواء أنت؟
أم ترى أدمع الموتى الحزانى قد عصرت؟
أم دموعى أنت يا أمطار فى شدوى وصمتى؟
ما أنا؟ ما أنت يا أمطار؟ ما ذاك الخضمّ؟
أهو الواقع ما أسمع؟ أم صوتك حلم؟
أىّ شىء حولنا؟ ليل وإعصار وغيم
ورعود وبروق وفضاء مدلهمّ
أسفا لست سوى حلم على الأرض قصير
تدفن الأحزان أيّامى ويلهو بى شعوري
لست إلا ذرة فى لجّة الدهر المغير
وغدا يجرفنى التيّار، والصمت مصيرى
وغدا تدفعنى الأرض سحابا للفضاء
ويذيب المطر الدفّاق دمعى ودمائى
ما أنا إلا بقايا مطر، ملء السماء
ترجع الريح إلى الأرض به، ذات مساء
أمطرى، دوّى، اغلبى ضجّة أحزانى ويأسى
أغرقينى، فلقد أغرقت فى الآلام نفسى
إملأى كأسى أمطارا فقد أفرغت كأسى
واحجبى عنى دجى أمسى فقد أبغضت أمسي
 

 
ثلج ونار
 
 
تسأل ماذا أقصد؟ لا، دعنى، لا تسأل
لا تطرق بوّابة هذا الركن المقفل
اتركنى يحجب أسرارى ستر مسدل
إنّ وراء الستار ورودا قد تذبل
إن أنا كاشفتك، إن عرّيت رؤى حبّي
وزوايا حافلة باللهفة فى قلبي
فستغضب منى، سوف تثور على ذنبي
وسينبت تأنيبك أشواكا فى دربي
هل يقبل ثلج عتابك قلبى الملتهب؟
أترى أتقبّل؟ لا أغضب؟ لا اضطراب؟
لا! بل سأثور عليك.. سيأكلنى الغضب
وإذا أنا ثرت عليك وعكّرت الأجواء
فستغضب أنت وتنهض فى صمت وجفاء
وستذهب يا آدم لا تسأل عن حوّاء
وإذا ما أنت ذهبت وأبقيت الشوقا
عصفورا عطشانا لا يحلم أن يسقى
وإذا ما أنت ذهبت.. فماذا يتبقّى؟
لا، لا تسأل..دعنى صامتة منطوية
أترك أخبارى وأناشيدى حيث هى
اتركنى أسئلة وردودا منزوية
يا آدم لا تسأل.. حوّاؤك مطويّة
فى زاوية من قلبك حيرى منسّية
ذلك ما شاءته أقدار مقضيّة
آدم مثل الثلج , وحوّاء ناريّة
يا آدم لا تسأل.. حوّاؤك مطويّة
فى زاوية من قلبك حيرى منسّية
ذلك ما شاءته أقدار مقضيّة
آدم مثل الثلج، وحوّاء ناريّة
 
 

 
نهاية السلم
 
 
مرّت أيام منطفئات
لم نلتق لم يجمعنا حتى طيف سراب
وأنا وحدى، أقتات بوقع خطى الظلمات
خلف زجاج النافذة الفظّة، خلف الباب
وأنا وحدى..
مرّت أيام
باردة تزحف ساحبة ضجرى المرتاب
وأنا أصغى وأعد دقائقها القلقات
هل مرّ بنا زمن؟ أم خضنا اللازمنا؟
مرّت أيام
أيام تثقلها أشواقي. أين أنا؟
ما زلت أحدّق فى السلّم
والسلّم يبدأ لكن أين نهايته؟
يبدأ فى قلبى حيث التيه وظلمته
يبدّأ.. أين الباب المبهم؟
باب السلّم؟
مرّت أيام
لم نلتق، أنت هناك وراء مدى الأحلام
فى أفق حفّبه المجهول
وأنا أمشى، وأرى، وأنام
أستنفد أيامى وأجرّ غدى المعسول
فيفرّإلى الماضى المفقود
أيامى تأكلها الآهات متى ستعود؟
مرّت أيام لم تتذكر أن هناك
فى زاوية من قلبك حبا مهجورا
عضّت فى قدميه الأشواك
حبا يتضرّع مذعورا
هبه النورا
عد.. بعض لقاء
يمنحنا أجنحة نجتاز الليل بها
فهناك فضاء
خلف الغابات الملتفّات، هناك بحور
لا حدّ لها ترغى وتمور
أمواج من زبد الأحلام تقلبّها
أيد من نور
عد، أم سيموت،
صوتى فى سمعك خلف المنعرج الممقوت
وأظلّ أنا شاردة فى قلب النسيان
لا شيء سوى الصمت الممدود
فوق الأحزان
لا شيء سوى رجع نعسان
يهمس فى سمعى ليس يعود
لا ليس يعود
 

 
الراقصة المذبوحة
 
 
ارقصى مذبوحة القلب وغنّي
واضحكى فالجرح رقص وابتسام
اسألى الموتى الضحايا أن يناموا
وارقصى أنت وغنّى واطمئني
ادموع، اسكتى الدمع السخينا
واعصرى من صرخة الجرح ابتساما
اانفجار؟ هدأ الجرح وناما
فاتركيه واعيدى القيد المهينا
أىّ معنى لاختلاجات الضحايا؟
بعض أحزان ستنسى، ورزايا
وقتيل أو قتيلان، وجرحى
اقبسى من جرحك المحرق لحنا
لم تزل فيها بقايا من حياة
لنشيد لم يفض بؤسا وحزنا
صرخة؟ أىّ جحود وجنون!
اتركى قتلاك صرعى دون دفن
أىّ معنى لانتفاضات السجين؟
انتفاضات؟ وفى الشعب بقايا
من عروق لم تسل نبع دماء؟
إنجارات؟ وبعض الأبرياء
بعضهم لم يسقطوا بعد ضحايا؟
لم يكن جرحك بدعا فى الجروح
فارقصى فى سكرة الحزن المميت
الأرقّاء الحيارى للسكوت
اضحكى للمدية الحمراء حبّا
واسقطى فوق الثرى دون اختلاج
منّة أن تذبحى ذبح النعاج
منّة أن تطعنى روحا وقلبا
وجنون يا ضحايا أن تثوري
وجنون غضبة الأسرى العبيد
ارقصى رقصة ممتنّ سعيد
وابسمى فى غبطة العبد الأجير
وابسمى للقاتل الجانى افتتانا
امنحيه قلبك الحرّ المهانا
ودعيه ينتشى حزّا وطعنا
وارقصى مذبوحة القلب وغنّي
اسألى الموتى الضحايا أن يناموا
وارقصى أنت وغنّى واطمئني
وابسمى للقاتل الجانى افتتانا
امنحيه قلبك الحرّ المهانا
ودعيه ينتشى حزّا وطعنا
وارقصى مذبوحة القلب وغنّي
واضحكى فالجرح رقص وابتسام
اسألى الموتى الضحايا أن يناموا
وارقصى أنت وغنّى واطمئني
 
إلى العام الجديد
 
 
يا عام لا تقرب مساكننا فنحن هنا طيوف
من عالم الأشباح، يُنكرُنا البشر
ويفر منّا الليل والماضى ويجهلنا القدر
ونعيش أشباحًا تطوفْ
نحن الذين نسير لا ذكرى لنا
لا حلم، لا أشواقُ تُشرق لا مُنى
آفاق أعيننا رمادْ
تلك البحيرات الرواكدُ فى الوجوه الصامتة
ولنا الجباه الساكتةْ
لا نبضَ فيها لا اتّقادْ
نحن العراة من الشعور، ذوو الشفاه الباهتةْ
الهاربون من الزمان إلى العدمْ
الجاهلون أسى الندمْ
نحن الذين نعيش فى ترف القصورْ
ونَظَلُّ ينقصنا الشعور
لا ذكرياتْ،
نحيا ولا تدرى الحياةْ،
نحيا ولا نشكو، ونجهلُ ما البكاءْ
ما الموت ما الميلاد، ما معنى السماء
يا عامُ سرْ، هو ذا الطريقْ
يلوى خطاكَ، سدًى نؤمل أن تُفيقْ
نحن الذين لهم عروق من قصبْ
بيضاءُ أو خضراء نحن بلا شعورْ.
الحزن نجهله ونجهل ما الغضب
ما قولُهم إنّ الضمائر قد تثور
ونود لو متنا فترفضنا القبور
ونود لو عرف الزمانْ
يومًا إلينا دربه كالآخرين
لو أننا كنا نؤرخ بالسنين،
لو أننا كنا نقيَّد بالمكانْ
لو أن أبواب القصور الشاهقات
كانت تجىءُ قلوبَنا بسوى الهواء،
لو أننا كنا نسير مع الحياةْ
نمشى نحس، نرى، ننام
وينالنا ثلج الشتاءْ
ويلفُّ جبْهَتَنا الظلام
أواه لو كنا نحسّ كما يحس الآخرونْ
وتنالنا الأسقام أحيانًا وينهشنا الألم
لو أنَّ ذكرَى أو رجاء أو ندم
يومًا تسدُّ على بلادتنا السبيلْ
لو أننا نخشى الجنونْ
ويثيرُ وحشَتنا السكون
لو أن راحتنا يعكّرها رحيل
أو صدمة أو حزن حب مستحيل.
أواه لو كنا نموت كما يموت الآخرونْ