الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

التعصب المذهبى جهل ببدهيات الإسلام




كتب : د. مصطفى نوارج
يقول الله تعالى: «وما جعل عليكم فى الدين من حرج» ويقول صلى الله عليه وسلم «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحدا إلا غلبة» ويقول: «هلك المتنطعون».
من مظاهر يسر الإسلام التى يدركها كل فاهم لهذا الدين أنه يمكن لنصوصه أن تعطى أكثر من مدلول وبالتالى يمكن أن تتعدد طرق تطبيق هذه النصوص، ومن ثم نشأت فكرة المذاهب الفقهية المختلفة والمتعددة، فمنذ عصر النبى صلى الله عليه وسلم اختلف أصحابه بين يديه فى فهم نصوص الشرع بما تسمح به مقاصد الشرع وقوانين استنباط أحكامه ولغة العرب التى ارتضى الله لخلقه أن تكون هى وعاء الشريعة وأداة من أهم أدوات فهمها، فمن ذلك على سبيل المثال ما رواه البخارى بسنده أن النبى صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة الأحزاب قال: «لا يصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة» فأدرك بعضهم العصر فى الطريق فقال بعضهم لا نصلى حتى نأتيها وقال بعضهم بل نصلى لم يرد منا ذلك فذكر للنبى صلى عليه عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم.
فالنص الشريف مدلوله الحقيقى يأمرهم بصلاة العصر فى بنى قريظة فعمل بعض القوم بظاهر النص وحقيقته وأبوا أن يصلوا إلا فى بنى قريظة، وحمل بقية الصحابة النص على المجاز وأنه كناية عن الإسراع فى السير وأن النبى لم يرد حقيقة النص وهذا فهم صحيح على قانون لغة العرب.
وهكذا اختلف الصحابة فى فهم النص بين يدى النبى صلى الله عليه وسلم فأقرهم على ذلك ولم ينكر عليهم بل روى عنه صلى الله عليه وسلم: «اختلاف أصحابى رحمة لأمتى»، ويقول القاسم بن محمد: لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه فى سعة، ورأى أن خيرا منه قد عمله.
اختلف أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فلم يفسد خلافهم للود بينهم قضية ولم يتعصب واحد لرأيه ولم يتهم أحدهم من خالفه فى الرأى بالبدعة أو الفسق ولم يرمه بالكفر أو الضلال، وذلك لأن الجميع يعمل أن كل هذه الفهوم مستمدة من مشكاة النبوة، وكلهم من رسول الله ملتمس.. غرفا من البحر أو رشفا من الديم.
وهكذا صارت الأمة من بعد الصحابة إلى يومنا هذا - فيما عدا قلة من المتعصبين الذين لم تنضج معارفهم عن الإسلام فغابت عنهم هذه الحقيقة البدهية - على هذا المنهج الرصين، يروى أن الخليفة المنصور قال لمالك قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التى وضعتها فتنسخ ثم أبعث فى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة وآمرهم بأن يعملوا بما فيها ولا يتعدونه إلى غيره فقال يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا فى الفروع وتفرقوا فى البلدان وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ودانوا به من اختلاف الناس فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم.
فالإمام مالك يرى أنه لا يجوز له أن يجبر الناس على مذهبه لأنه لم يحط بكل العلم ولم يستوعب مذهبه كل علوم الصحابة وإنما أخذ بعلم أهل المدينة فقط، وهناك علوم كثيرة وفهوم متعددة حملها معهم الصحابة الذين تفرقوا فى بقاع الأرض.
انظر إلى نبذ العلماء الأكابر للتعصب فى قول أبى حنيفة: قولنا هذا رأى، وهو أحسن ما قدرنا عليه فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا، وقول الشافعى: رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب، وقول أحمد: لا ينبغى للفقية أن يحمل الناس على مذهبه، وقول سفيان الثورى: إذا رأيت الرجل يعمل بالعمل مما اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه، ثم استخلص تلاميذه هؤلاء الأكابر وأتباعهم قاعدة ذهبية تتحطم فوقها صخرة التعصب المذهبى هذه القاعدة تقول: «إنما ينكر المتفق عليه ولا ينكر المختلف فيه».
هؤلاء هم الأئمة الذين حفظ الله بهم دينه فما لنا نتنكب طريقهم ولا نخطو على نهجهم، قال ابن قدامة المقدسى: وجعل فى سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام، مهد بهم قواعد الإسلام، وأوضح بهم مشكلات الأحكام، اتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة.
هؤلاء هم سلفنا الصالح الذين يحق لنا أن نفخر بانتسابنا إليهم وننتشى إذا سرنا سيرهم.
 أولئك آبائى فجئنى بمثلهم
 إذا جمعتنا يا جرير المجامع
هذه الحقيقة البدهية وهى أن نصوص الشرع قابلة للتطبيق بأكثر من طريقة حين غفل عنها بعض المسلمين تعصبوا لوجهة نظرهم التى لم يطلعوا على غيرها، بينما أدركها معظم المسلمين فلم نجد بينهم هذا التعصيب المقيت حتى أنهم من شدة إدراكهم لهذه الحقيقة صاغوها فى حكمة رائعة بديعة يرددونها فى كل خلاف ينقل عن العلماء فتجدهم يقولون: «كل شيخ وله طريقة»، والله الموفق.
إمام وخطيب مسجد السيدة زينب