السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

نفرتيتى وأنا فى ألمانيا




كتب : نهلة سليم

سألتنى جدة أولادى الألمانية ذات الخامسة والتسعين عاما ذات يوم بأنه كيف للدول التى ملأت حضارتها الدنيا بأكملها، كيف لها أن تستعيد حضارتها مرة أخرى بعد أن تاهت فى ظلمة التخلف؟ فتنبهت لسؤالها النابع من ثقافتها التى أخذتها من قراءتها المستمرة، حيث تقرأ يوميًا هى وشعبها المثقف الذى أخذ ثقافته من قراءته- أى من الكتب وليس فقط من المدارس أو الجامعات- فتراه وأنت فى المواصلات العامة يقرأ، تراه أيضًا عندما ينتظر فى عيادة الطبيب يقرأ، فهو يستفيد من كل ثانية تمر من عمره لا يضيعها بدون أن يتعلم ويستفيد لأنه يعلم جيدًا أن العلم لا يوجد إلا فى الكتاب، لذلك وجدتنى أنظر لجدة أولادى وأتذكر جدتى نفرتيتى وعصرها الجميل عصر الفن، عصر الإبداع الذى بدونه ما لمصر تاريخ يذكر كباقى الدول والحضارات التى لم يفن أهلها بأى نوع من أنواع الفنون ولم يتركوا أى أثر لهم فمحوا بذلك اسمهم من ذاكرة التاريخ.
وإجابة السؤال التى طرحته لى الجدة المخضرمة المليئة بالتجارب وحكم الحياة هو بكل تأكيد التعليم، خاصة التعليم الفني، ونحن فى مصر لم نفهم معنى كلمة تعليم فنى إلى الآن، كلمة فنى أى فن أى إبداع وليس تعليم يد عاملة فقط، بل فن يدوى وهذا الاسم هو الذى لابد أن نطلق عليه، لأننا اليوم وفى ظل تيهة التخلف هذه التى وصلنا إليها فى شتى المجالات وعدم استثمار القوة الشبابية، حيث إن أعداد الشباب فى بلادنا هى النسبة الأكبر من شعبنا، إذن ماذا ننتظر أنا كدولة، ماذا انتظر أو ماذا يمنعنى من أن لا أمد يد العون لهؤلاء الشباب بأن أسس لهم مدارس تشمل الورش بداخلها؟ وبأن أستعين بخبرات الدول التى تميزت فى صناعة ما، على سبيل المثال: ألمانيا تميزت بصناعة السيارات، فهل يصعب علّى كدولة أن أطلب خبراء ليعلموا أولادى هذه الصناعة المثمرة؟ وإذا صعب علّى كدولة، ألم يوجد من أبنائنا فى الخارج من لديهم الفرصة واللغة وهم على اتم استعداد أن يسهلوا هذه الأمور للاستعانة بهؤلاء الخبراء المعلمين المهنيين للدولة ليبنوا لنا أجيالا تمكن مصر من استعادة قواها مرة بهؤلاء الأجيال مرة أخرى.
كيف لنا أن نمضى فى طريق عكس اتجاه العالم؟ العالم كله يمضى ويخطط بما لديه وما عليه لمائة عام قادمة ونحن فى مصر لا نستطيع أن نخطط وندرس ما لدينا والدليل على صحة كلامى البطالة المتفشية بين شبابنا لأن الدولة نسقت مكاتب التنسيق بالخطأ لأنها بدلا من أن ترفع الدرجة للمهنة التى تراها ليست بحاجة كافية إليها، طلبت لها درجات عالية وفى نفس الوقت خفضت الدرجة التى هى بحاجة كبيرة لها، فكانت النتيجة أن الذين تخرجوا بدون تخطيط سليم لم يكن لديها أماكن عمل لهم، ثم لابد أن تسارع بإنشاء مدارس فنية متخصصة للتعليم بالاستعانة بخبراء لهم تاريخ فى تخصصها ولم تنجح إلا بأن تنتهج نظامًا عالميًا فى سياسة التعليم وخاصة التعليم الفنى.
فى ألمانيا سياسة التعليم مرتبطة بسياسة الدولة أى مرتبطة بسوق العمل، فكانوا فى الماضى بعد الحرب العالمية كان سن العمل يبدأ من 14عاما، كان على التلميذ أن يتعلم التعليم الإلزامى فقط إذا أراد، ثم من بعد ذلك كانت توجهه الدولة بشتى الطرق بأن يتجه لتعليم مهنة بأن يذهب إلى أحد المصانع لكى يدرس عندها 3 سنوات على يد من لديهم الخبرة، فبذلك تنتقل الخبرة إلى الجيل الجديد، ثم يصبح هذا الشباب جاهزًا لكى يبدأ فى مشوار العمل لكى يبنى دولته التى تحتاج يده، وأصبحت ألمانيا مرة أخرى بعد خرابها قوة اقتصادية كبرى تستدين أكبر الدول الأوروبية منها على يد من؟ بيد أبنائها الجادين المتحملين المسئولية، الذين بنوا بلادهم بسياستها وبعرقهم، واليوم وبعد أن استعادت قواها ما زال سن الرابعةعشر سن العمل، ولكن بصورة مخففة وأهم شىء تعلمه الدولة لأبنائها وزرعته فى مجتمعها أن العمل شرف أيا كان نوع هذا العمل وأن البطالة عار وخزى، فعلى الرغم من الدولة تعطى العاطلين عن العمل إعانة لكى تحميه من التشرد هو وأسرته وهذه الإعانة تعادل دخل رجل يعمل عملا كبيرا ومع ذلك يرفضها الشعب الألمانى وتراه يبحث عن العمل، لأنه يعلم جيدًا أن بلاده لن تتقدم إلا إذا عمل هو وصنع وأبدع وصدر ودفع ضريبته التى تردها له الدولة مرة أخرى، يراها فى كل شىء من حوله ورأى أن الدولة احترمت هذه المهن واعتبرتها صفا أول فى كل المجالات ونظرة المجتمع أيضًا نظرة بها فخر وإجلال للمهن وكانوا بعد الحرب العالمية وبناء ألمانيا من جديد يعتبرون العمال كالجنود أى أبطال، إلى الآن يعتبرون المهنة- أيا كانت هذه المهنة- كنوع من أنواع الفنون لها تقديرها واحترامها وهذا هو دور الدولة وإعلامها وهذا هو أيضًا كان سؤال جدة أولادى التى قصدت فى سؤالها لى أن مصر كانت بلد الفن وأن العالم تعلم منها كيف يفن ويبدع، والجريدة الألمانية وغيرها من الشعب الألمانى عندما يذهبون لزيارة جدتى نفرتيتى المصرية فى مقر اعتقالها «متحف برلين» يعلمون كم نحن المصريون مبدعون ولنا فى تكويننا هذا الموروث الطبيعى مرة أخرى بأن نستعين من لهم الخبرات فى مجالهم لكى يعلموا أبناءنا التعليم المهنى ولكى تقف مصر على قائمة الدولة المصدرة صناعيا أو تكتفى ذاتيًا من صنع يد أبنائها.
وأنا ذاهبة لجدتى نفرتيتى أحلم باليوم الذى أتمنى أن أعيشه وأنا ذاهبة إليها وهو أن أرفع رأسى أمامها كما هى رافعة رأسها فى هذا البلد «ألمانيا» حيث العالم كله يرفع له رأسه.