الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الذين يبايعون أسيادهم فى الصباح ويأكلونهم فى المساء

الذين يبايعون أسيادهم فى الصباح ويأكلونهم فى المساء
الذين يبايعون أسيادهم فى الصباح ويأكلونهم فى المساء





عاطف بشاى


عاصرت الشاعر والمؤلف والمخرج المسرحى الكبير الراحل نجيب سرور، الذى كان يملأ الدنيا فناً وتوهجاً وصخباً وجنوناً فى سبعينيات القرن الماضي، ويخوض معارك أدبية وفكرية وسياسية نارية وجسورة، متحصنا بضمير يقظ شفاف مستخدماً قلماً حاداً لاذعا كأسنة الرماح.. يهتك به أستاراً من الزيف والكذب والنفاق.. ويسخر فى هجاء قاس من نماذج بشرية شوهاء.
وكنت أجالسه أحياناً بمقهى «ريش» فيأسرنى بعطفه الفياض ويحن على دون أن اطلب بأن يزكينى لدى رؤساء تحرير المجلات الراسخة وقتها مثل «الكاتب» لينشروا لى بعض المقالات وأنا مازلت فى العشرينيات من عمرى.
وعلى مقهى «ريش» أدار عينيه فى الجالسين حوله من بعض المثقفين الاصدقاء وانهال عليهم بالهجاء المرير الذى كان يصور من خلاله حالة الفصام الفكرى التى يعانى منها من يكذبون ويخادعون ويتلونون ويتحولون ويرتدون الاقنعة ويحتالون ويدعون الصدق والاخلاص.. ونقاء السريرة وثبات المبدأ وطهارة المقصد.
وقد ظهر هذ الهجاء المرير بأبدع ما يكون فى قصيدته «بروتوكولات حكماء ريش» التى يصف فى ديباجتها النقاد «سحالى الجبانات» والشعراء والقصاصين بأنهم هواة البحث عن الشهرة والخبراء بكل صنوف الازمات، ويؤكد ساخراً متحدثاً باسمهم فينصح المتلقى إذا أراد أن يتشبه بهم ألا يقرأ شيئاً.. يكفى أن يكون «حمال حطب» فيحمل طن كتب ويضعه وبجانبه قنينة بيرة ويشرب ولا يقرأ وإذا قرأ يجتهد ألا يفهم شيئاً مما يقرأ «ليس يهم اليوم الفهم / فالمفهوم اللامفهوم / أو بالعكس / لن يسألك أحد معنى قولك / فالمفروض اللامعنى للأشياء وللكلمات.
وفى البروتوكول الثالث ينصح بعد الصمت فالصمت جهالة والثرثرة الجوفاء فضيلة، لكن على المتحدث الألعبان أن يحذر فى الوقت نفسه أن يتكلم فى لب الموضوع المثار.. المهم الشكل.. المظهر.. لا المضمون.
لتأخذ سمات الاستاذ وحذار أن تنسى البايب والكلمات اللاتينية «قل فى الواقع واصمت لحظة».. قل لا شك وأصمت لحظة، ثم مقدمة محفوظة فى فذلكة المنهج حسب الموجة والتيار فالبحر سباق، والموجات الوف.
ويرى نجيب سرور فى النهاية أن هذا النموذج الذى يعيش غير ما يعلن حالة فصام هذه الحالة هى أخطر أمراض البشر وهى التى قادت إلى هزيمة يونية 1967، ثم قادت الهزيمة فيما بعد إلى الفساد السياسى والاقتصادى والاخلاقى.
قادنى البحث عن سمات تلك الشخصيات إلى الروايات الست التى نشرت لنجيب محفوظ فى النصف الأول من الستينيات التى حللها بعمق صلاح عيسى فى كتابة «شخصيات لها العجب».. إنها شخصيات سعيد مهران فى «اللص والكلاب» وعيسى الدباغ فى «السمان والخريف» وعمرو الحمزاوى فى «الشحاذ» وصابر الرحيمى فى «الطريق» «وانيس زكي» فى «ثرثرة فوق النيل» وسرحان البحيرى فى «ميرامار» وهذه النماذج التى التقطها نجيب محفوظ من مجتمع يوليو فى مرحلة ما قبل الهزيمة وما بعدها ليس بينهم نموذج يدعو إلى الاحترام أو الثقة، فالذين كانوا يتصدرون المشهد الثورى فى تلك السنوات هم الانتهازيون والهتيفة والخونة.. والمنافقون الذين تنكروا لمبادئهم يبغبغون بالدفاع عن مبادئ لا يؤمنون بها، ويكررون بآلية ومن دون اخلاص حقيقى شعارات تتسلط بها أجهزة الاعلام على عقولهم.. انهم مثلا يدافعون علناً عن الاشتراكية ويطالبون بالعدل الاجتماعى ويحلمون سرا بالامتيازات الطبقية، ينددون بالطبقات الرجعية التى قضت عليها الثورة ثم يسعون فى الخفاء للتقرب منها أو مصاهرتها أو مشاركتها مشروعاتها التجارية، أما المخلصون فقد صمتوا رضاء أو كرها.. خدع فريق منهم نفسه بأن الثورة لا تزال تعد بمزيد من الأمل على الرغم من سوء الاحوال.. وأجبر آخرون بسيف المعز وذهبه أن يصمتوا أو يرضوا بالواقع وفتحت المعتقلات ابوابها لمن اصر على أن يتحدى الصمت ويجهر بمعارضته.
«سرحان البحيرى» بطل رواية «ميرامار» هو الوحيد فى الرواية الذى يمثل الثورة والذى انتهى قبل شهور قليلة من هزيمة (1967) إلى مصير قريب من المصير الذى انتهت اليه فى يونيو من ذلك العام فيما يمكن اعتباره تأكيداً للنبوءة التى أعلنها نجيب محفوظ فى ختام روايته «ثرثرة فوق النيل» حين اجتمعت شلة المثقفين المسطولين المعزولين عما يجرى حولهم فى معتقل العوامة فى سيارة أحدهم وخرجوا لأول مرة إلى دنيا الناس ليصدموا مواطنا مجهولاً فقيرا وشبه عار لا يعرف له أحدا اسما ولا أهلاً لعله الوطن.. أو الشعب.
سرحان البحيرى كان أثناء دراسته فى الجامعة عضواً نشيطا فى لجنة الطلبة الوفديين بالكلية خلال الشهور الاولى للثورة ومن المعارضين لها لكنه غير اتجاهه بعد ذلك وانضم إلى هيئة التحرير ثم الاتحاد القومى ليستقر أخيراً بلجنة الاتحاد الاشتراكى بشركة الغزل والتى يعمل وكيلاً لحساباتها ثم انتخب عضوا بمجلس ادارتها ممثلا للعمال وذاع عنه فى الشركة وخارجها أنه شاب ثورى متحمس.
يقول صلاح عيسى فى وصف سرحان إنه نموذج للانتهازى القارح الذى لا يؤمن بالثورة حتى ولو كان من المنتفعين بها لكنه يبالغ فى التظاهر بالحماس لها لكى يتقرب من باشوات العهد الجديد الذين ورثوا السلطة والنفوذ وبالتالى الثروة من باشوات العهد البائد.. وأخذوا يوزعون الامتيازات على حواشيهم وذيولهم فكان طبيعياً أن يزدحم شراع الثورة بالهتافين والارزقية والمنافقين الذين احترفوا الاكل على كل الموائد.
أليس مدهشاً إذا بعد مرور ما يقرب من عدة سنوات على قيام ثورة 25 يناير أن يبدو نجيب محفوظ وكأنه قد قرأ سطور المستقبل.. وعاصر وقائع حاضر ثورة الميدان.. واستلهم عجائب شخصياتها وتأمل مغزى مصائرهم وعبث ما يسمى بحكمة التاريخ ودروسه التى تعيد نفسها وتتكرر.
يقول سمير عبد الباقى صديق عيسى الدباغ الذى فصل معه فى التطهير: كنا طليعة ثورة فأصبحنا حطام ثورة (أصبحا من الفلول بلغتنا الآن).. كيف يكون للحجر دور فى المسرحية وللحشرة دور وللمحكوم عليه فى الجبل دور.. ونحن لا دور لنا.
يقول له «عيسى» مع أى عمل سنتخذه سنظل بلا عمل.. لأننا بلا دور وهذا هو سر احساسنا بالنفى كالزائدة الدودية.. وستزداد ضحكاتنا كلما رأينا التاريخ وهو يصنع لنا دون أن نشارك فيه كالأغوات.. أى مصيدة قد وقعنا فيها.. إما أن نخون الوطن.. أو نخون أنفسنا.. لكنهم فى ثورة (25) يناير يقررون أن يعملوا.. «سحالى جبانات» مثلما وصفهم «نجيب سرور».. وحدد مكمن الداء فى انفصالهم الفكرى وثرثرتهم الجوفاء بلغة لا يفهمها المثقفون الحقيقيون.. وهم فى عملهم «كسحالى جبانات» حنجورين يشاركون السماسرة وباعة الوهم والمتاجرون بالوطن ولاعبو الثلاث ورقات والبيضة والحجر.. يجلسون القرفصاء أمام الميكروفونات ليبيعوا الشعارات ويحشون كما يقول «نزار قباني» أفواه الجماهير تبناً وقشاً.. يمدحون كالضفادع.. ويشتمون كالضفادع.. ويبايعون أربابهم فى الصباح بالطبلة والربابة ويأكلونهم حينما تأتى العشية.. أو العكس.. ولهم فى كل مرة ألف تبرير وتبرير.. لكن يظل الواجب المقدس تجاه الوطن هو الدافع والمحرك وبوصلة الانقاذ لشرف مقصدهم ونبل سعيهم.. إنهم مهرجون ومقاولون وتجار شنطة يستبدلون قناعاً بقناع يتحولون فى فومتو ثانية من تيار إلى تيار.. ومن مذهب إلى مذهب.. ومن موقف إلى عكسه.. ويغيرون الكرافتات من استديو إلى آخر فى الفضائيات المستباحة.. وهم يلتقون فى «ريش» بين فقرات البرامج ليواصلوا نضالهم العظيم فى المساجلات الفكرية والتطاحن الجدلى الهيجلى.. والتناجز بالألفاظ.. وهم يعانون من تفاقم حالة البارانويا المرضية.. ويدعون خوضهم معارك وهمية وغزوات عنترية مع الآخر.. وأنهم قاب قوسين أو أدنى من المعتقل.. وأنت حينما تسألهم من هو ذلك الآخر المقصود غمز الواحد منهم لك بعينه هامساً بريبة واستنكار: معقولة مش عارف؟!
إنهم يرتجلون البطولة ارتجالاً لكنهم فى حقيقة الأمر مثل قشرة البطيخ تافهون..
لقد ساهموا جميعاً فيما نحن فيه الآن من عدم قدرة الثورة على تحقيق هدف واحد من أهدافها.