الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«تكنولوجيا المستقبل» تقطع أرزاق الحرفيين بـ«قنا»

«تكنولوجيا المستقبل» تقطع أرزاق الحرفيين بـ«قنا»
«تكنولوجيا المستقبل» تقطع أرزاق الحرفيين بـ«قنا»




تحقيق - حجاج سلامة


تنتشر الحرف والصناعات التاريخية والشعبية فى مدن محافظة قنا، الغنية بتراثها وفنونها، وبفنانيها التلقائيين وصناعها المهرة، حيث تشتهر مدينة نجع حمادى بصناعة العسل الأسود، وتنفرد نقادة بصناعة الفركة، وتتميز قوص بصناعات وحرف عدة بينها صناعة الخزف وعصر الزيوت.
ورش عمل للارتقاء بالحرف
وتأتى تلك الحرف امتدادا لما عرفته مصر القديمة من الصناعات التى لا تزال قائمة، وسط مساعى المسئولين للحفاظ على تلك الحرف والصناعات وتنميتها، ومساعدة القائمين عليها عبر إقامة معارض لهم، فضلاً عن ورش عمل للارتقاء بفنونهم وصناعاتهم، وتطويرها لتتماشى وتقنيات العصر الحديث مع الحفاظ على طابعها التاريخى والشعبى.
سلطت «روزاليوسف» الضوء على مدن نجع حمادى وقوص ونقادة وقنا، والصناعات التاريخية والشعبية العريقة بتاريخها وجهود رجال المحافظة، وذلك بمشاركة الدكتورة خديجة فيصل مهدى، الباحثة فى مجال حماية التراث والحرف التاريخية، ومتاعب العاملين فيها ومعوقات نموها واستمرارها.
بداية معصرة الحاج يونس بقوص، شاهدة على تاريخ الصناعات البيئية فى البلاد، حيث نشأت الصناعة فى مصر منذ الحضارة الفرعونية وعرف القدماء المصريون استخراج المعادن كالنحاس والفضة والذهب، ونجحوا فى صهرها وتصنيعها، وعرفوا أيضًا صناعات «الآلات والأدوات الزراعية المعدات الحربية «الخزف» بناء السفن المنسوجات الكتانية «عّصر الزيوت»، فضلاً عن أن المرأة المصرية عملت فى صناعة الزيوت والدهانات العطرية.
وتشتهر مدينة قوص بصناعة الزيوت الطبيعية، من زيوت خام وطبية، وتعد معصرة الحاج يونس، من أقدم معاصر الزيوت فى الجمهورية، يعود تاريخ  تأسيسها إلى عام 1190 هجرية، وبمجرد دخولك المنطقة تطالعك الأزقة التى تتنسم منها عبق التاريخ وتشعر بأريج التراث يتسلل من أنفك إلى رئتيك ليكسبك انتعاشا يصل بك إلى أقصى درجات النشاط والفضول فى آن واحد، وتجد الكثير يتوافد على الزيوت خاصة «حبة البركة»، ناهيك أن المكان يتميز بتصميم معمارى بسيط  ينقلك إلى القرن الماضى أو ربما الذى قبله وتجد على جدرانها بقايا من تاريخ كاد أن يندثر.

جلب المواد من المحافظات المجاورة
تقول الباحثة خديجة فيصل مهدى إن المعصرة تحظى بشهرة واسعة وهى تتميز بإنتاج جميع الزيوت مثل زيوت «حبة البركة - الكمون الأسود  -  الجرجير – الفجل – الجزر – السمسم -  الخس -  البصل -  البقدونس -  القرع -  الينسون -  القرطم -  الترمس -  الثوم -  الخردل -  الحلبة»،  بالإضافة إلى العطور الخام والتى تجلب جاهزة وتباع فى المعصرة وتجلب المواد الخام من حبوب وبذور من محافظتى أسيوط والمنيا.
ويلفت يوسف أحمد يونس، مدير المعصرة، إلى أن انتاجهم من زيت حبة البركة يوميا والذى يتزايد الطلب عليه يتم استهلاكه عن آخره فى السوق المحلية لاستخدامه كعلاج لكثير من الأمراض، أما عن الزيوت الأخرى فالإنتاج حسب الطلب، ولا توجد أى معوقات لهذه الصناعة، مؤكدًا أنها لم تتلق أى دعم من المحافظة.
ويقول الحاج محمد يونس أحمد، بائع زيوت، قوص كان يوجد بها حوالى 30 معصرة مخصصة للزيوت، إلا أنها أغلقت أبوابها لاستخدام تلك الزيوت كزيوت للطعام وبعض الظروف الاقتصادية لأصحابها، مشيرا إلى أن المعصرة حظيت باهتمام إعلامى كبير فى عام 1992، ناهيك أن تلك الصناعة يتوارثها الأبناء عن الآباء والأجداد لتبقى راسخة، ناهيك أن العمال يرضون بما قسمه الله لهم من تلك المهنة.
بينما تشتهر مدينة نقادة بصناعة الغزل والنسج، وتجد المناظر تزين جدران المقابر وكانت تشتهر بإنتاج الكتان، والذى صنعت منه معظم المنسوجات المصرية القديمة، فضلا عن أنه تم العثور على منسوجات مصنوعة من صوف الأغنام وشعر الماعز، وألياف النخيل والحشائش وغير ذلك، وقام المصرى القديم باستخدام الألوان منذ أقدم العصور، منوها إلى أن النساء كن يشكلن الغالبية بين المشتغلين فى إنتاج المنسوجات، إلى جانب أن مئات الأسر تمتهن صناعة النسيج اليدوى وصناعة الفركة وهى عبارة عن شال من الحرير المصنع يدويا والتى تمثل اعتقادا دينياً فى بعض الدول الأفريقية بأنها تجلب البركة.

وحيدة على مستوى العالم
صناعة الفركة كانت تصدر للسودان والدول الأفريقية بجانب تسويقها فى محافظات «أسوان الأقصر سوهاج قنا أسيوط المنيا»، ولا توجد أسرة لا يعمل أفرادها فى النسيج، حيث يعمل بها الآلاف من أبناء القرية، الأمر الذى جعل نقادة المدينة الوحيدة على مستوى العالم التى تتفرد بتلك الصناعة التاريخية التى ورثوها عن أجدادهم الفراعنة واحتكروها بحرفيتهم ومهارتهم فيها، فى الوقت نفسه كانت ولاتزال مصدرًا متميزًا للدخل القومى ومصدرًا للرزق الأساسى لمعظم سكان المدينة التاريخية.
وتقول مهدى يبلغ عدد الأسر الممتهنة لـ«الفركة» نحو 600 أسرة بنقادة وقرية الخطارة، وتوفر حوالى 3 آلاف فرصة عمل تبعا لمراحل الإنتاج اغلبهم من السيدات وكبار السن، لافتة إلى أن العصر الذهبى للفركة السودانية كانت تصدر إلى السودان وكان يقدر الإنتاج سنويا حوالى 700 ألف قطعة تقدر بنحو 4 ملايين دولار، وعدد العاملين بها 10 آلاف أسرة، والأنوال 5 آلاف نول وكانت تجلب الخيوط من شركات مصرية، لكن أصبح استيراد الخيوط حاليا من الصين والهند، ودخل الأسرة حوالى 300 جنيه شهريا.
وتطالب الباحثة بمد يد العون من قبل المسئولين للنهوض بتلك الصناعة لرفع المعاناة عن العاملين فيها، والحفاظ على تراثها من خلال عودة وتنشيط الفركة السودانية، ما يحقق حياة كريمة للمواطنين، وذلك بعد أن لجأت المدينة إلى انتاج الفركة الدرمانى والسياحية والملاءة الاسناوى «الحبرة»، بالإضافة إلى بعض أنواع الأقمشة مثل «المبرد»، لافتة إلى أن العاملين بها تجاوزت نسبتهم 90% من سكان المدينة، وكانت تقام الأفراح وقت التصدير نظرا لأن المدينة تصبح خلية نحل ويدب فى شرايينها النشاط.
وعن الخامات تقول عفاف برنابة هارون، صاحبة ورشة منزلية: إن الخامات تتكون من خيوط حرير أو غزل «فبران» تستورد من الصين أو الهند، وخيوط من الصوف وتبلغ لفة الحرير 4 كيلو ونصف الكيلو، بـ 110 جنيهات، وهناك أيضا خيوط من القطن مصبوغة يصل سعر الكيلو لـ 10 جنيهات، منوها إلى أن المحافظة دربت 40 شابا وفتاة على الفركة، بمكافأة 130 جنيها شهريا للمتدرب، ووصلت تكلفة هذه الدورة التدريبية إلى 100 ألف جنيه.

حرفيون متخصصون
وعلى صعيد متصل تقاوم صناعة الفخار فى قنا الاندثار، والتى تعود إلى 7 آلاف عام، حيث ضمت المعابد والجبانات والقصور الملكية، فى العصور الفرعونية، وورش عمل بها حرفيون متخصصون؛ فى صناعة الفخار والأثاث والحلى والزجاج والمعادن وغيرها من المنتجات، وتزخر المعابد والمقابر الفرعونية بنقوش ورسوم تصور مجموعات مختلفة من الحرفيين، فى ورشهم وتمتلئ متاحف العالم بمختلف المنتجات من إبداع أولئك الحرفيين الأفذاذ والذين يعدون فنانين بالفطرة.
الإناء المصرى الشعبى
يقول أحمد عبد العزيز، ممتهن لصناعة الفخار، إن قرى الترامسة والمحروسة بمركز قنا وقرية الشيخ على بمركز نقادة من أشهر قرى محافظة قنا فى إنتاج الفخار، فضلا عن أن هناك العديد من أشكال المنتجات مثل «البلاص» أو الإناء المصرى الشعبى بصوره وأحجامه المختلفة، مثل «الإبريق، الزير، البلاص، إبريق المواليد، قلة السبوع»، ويزين الإناء بوحدات زخرفية بسيطة وتمتاز ألوانها بقوتها وجمالها، علاوة على أن هناك أوانى فخارية أخرى يبرع فى صناعتها الشباب، والتى تتمثل فى أوان فخارية لحفظ السوائل وتخزين الغلال وحفظ الطعام وحفظ الزهور والطبول.
وهناك أيضا «القدرة البرنية الطبشية الزروية» وتستخدم فى طهى الفول المدمس وغيره من الأطعمة و«الزير الدن المزيرة، البلاص، السجا، البكلة، المنشل» وتستخدم لمياه الشرب، و«الطاجن البرام» فى طهى الأطعمة المختلفة و»الأطباق السلاطين الزبديات» لحفظ منتجات الألبان.
ويوضح فراج سلام، أحد صناع الفخار فى قنا أن تلك الصناعة باتت تعانى الكثير من المشكلات وفى مقدمتها المشاكل البيئية الناتجة عن أفران حرق الفخار، مطالبا بتوفير أماكن بديلة لها تكون بعيدة عن المناطق السكنية للحفاظ على تلك المهنة التاريخية التى باتت اليوم مهددة بالاندثار بسبب منافسة الآلة لهذه الصناعة وغزو الأوانى البلاستيكية والخزف والصناعات الصينية المستوردة، مشددا على فتح آفاق لتصدير المنتجات للدول العربية والأوروبية، خاصة أن تلك المنتجات صحية مائة فى المائة، ويتميز فخار نقادة الأولى بتنوع أشكاله فهناك الطواجين والأطباق والأكواب والأوانى ذات الشعبتين أو الثلاثة.
وتابعت: قنا عرفت أيضا فخار حضارة نقادة الثانية وهى الحضارة التى امتدت حتى منطقة النوبة السفلى جنوباً وحتى أبو صير والمعادى شمالاً، والذى يتميز برقته، وأطلق عليه الفخار ذو الزخارف أو الرسوم الحمراء وهى رسوم ذات اشكال هندسية وتكثر فيها الصور البشرية والحيوانية والطيور المائية بجانب صور لمواكب ونباتات.
اختراع عجلة الفخرانى
ثم لقيت صناعة الفخار اهتماما أقل خلال عصر الدولة الحديثة؛ وأقدم أنواع الفخار كانت تصنع يدويا، من الطين، ثم تترك لتجف تحت الشمس، وبعد اكتشاف النار، كان الفخار يحرق؛ ليصبح أكثر صلابة ومتانة، ويعمر أطول، واخترعت عجلة الفخرانى فى عصر الدولة القديمة؛ لتدار باليد اليسرى، بينما تشكل القطعة الفخارية باليد اليمنى، وفى العصور المبكرة، كانت قطع الفخار تزخرف نمطيا؛ بأشكال حيوانية وأشكال معقدة وحليات هندسية ونباتية وحيوانية ملونة، وبداية من الأسرة الرابعة، قل الاهتمام بالزخارف وصنع الفخار العادى للاستخدام اليومى.
أما نجع حمادى، فتعتبر قلعة صناعة العسل الأسود فى الصعيد، فقد بدأت تلك الصناعة منذ عقود مضت بعصارات بدائية، وكانت تحل فيها الأبقار محل الماكينات الحديثة فى التشغيل، فكانت الأعمال جميعها يدوية، بينما وسائل نقل القصب هى الجمال، ثم ارتقت صناعة العصارات لتظهر العصارات الخشبية، ثم الحديدية، والتى جاءت معها ماكينات تؤدى إلى عملية العصير، لكن ما زال يوجد فى نجع حمادى بعض العصارات القديمة.

ماكينات الديزل
تبدأ صناعة العسل الأسود من منتصف أكتوبر وتنتهى فى مايو، بجمع كسر القصب فى حقول إنتاجه ثم رفعه إلى العصارات، إما بواسطة الجمال أو بواسطة عربات النقل أو بمقاطير الجرارات الزراعية، ثم يتم تشوين عيدان القصب فى ساحة كبرى أمام العصارات التى تنتج العسل، فهى تقوم بعصر العيدان بواسطة عصارة من الحديد مكونة من ثلاثة درافيل تدار بماكينات الديزل لاستخلاص العصير الخام.
وبعد أن تقوم العصارات بعصر القصب يتم رفعه على قزانات لعملية التسخين إلى درجة حرارة تصل إلى 360 درجة مئوية يقوم خلالها العامل بتنظيف العصير من الفضلات وبواقى القصب والتى تؤدى بدورها إلى تكوين طبقة على السطح، حيث إن العسل من المأكولات النظيفة التى لو دخلت أى شوائب عليه أفسدته فى خلال 10 إلى 20 يوما، لكن عملية التنظيف تعطى مدة صلاحية أكثر من 3 أشهر.
وعن صناعة الخزف بجراجوس والمهددة بالاندثار أيضًا يمكننا القول بأن محافظة قنا واحدة من أهم معاقل ومدارس الفنون الفطرية المصرية، التى احتضنت الكثير من أرقى ألوان الفنون والصناعات الشعبية والحرفية المستوحاة من واقع البيئة المحيطة، التى تربى فى محيطها مئات ممن يطلق عليهم هنا بالفنانين الفطريين الذين تعلموا وتشربوا الكثير من الحرف والفنون بعيدا عن المراكز التعليمية من مدارس وجامعات.

قطع خزفية تزين آلاف المنازل
ففى مدينة قوص وعلى بعد كيلو مترات قليلة من مدينة الأقصر الغنية بالآثار الفرعونية، يوجد مصنع الخزف الذى يطلق عليه الباحثون قلعة من قلاع صناعة الخزف اليدوى فى العالم، فهنا وبحسب قول الدكتورة خديجة فيصل مهدى، يبرع عشرات الفنانين الفطريين فى إبداع قطع خزفية باتت تزين آلاف المنازل والمراكز الفنية ببلدان أوروبا والعالم، إذ يحرص عشرات الآلاف من السياح الوافدين لمحافظة الأقصر التاريخية فى كل عام على اقتناء منتجات مصنع خزف جراجوس. وتضيف أن مصنع خزف جراجوس يعود تاريخ إنشائه إلى حقبة الخمسينيات من القرن الماضى، وتحديدا عام 1955، على يد المعمارى المصرى العالمى «حسن فتحى» صاحب ما يسمى فى مصر بعمارة الفقراء، ضمن مجموعة مبان أقامتها الكنيسة الكاثوليكية، بفكرة من الأب الفرنسى أسطفيان دى مونجولوفييه الذى لقب بعاشق جراجوس.
وقد حرص فتحى على أن تكون كل بنايات المصنع مبنية من الطوب اللبن لكى تلائم الصناعة التى أنشئت من أجلها هذه البنايات التى أقيمت أيضًا على شكل يأخذ شكل القباب، منوهة إلى أن المصنع كان يتم به جلب الطين من المادة الخام لصنع الخزف من منطقة أبو الريش، حيث الطين الأسوانى الأحمر الغنى بأكسيد الحديد بسعر 25 جنيها للطن آنذاك، والذى تجاوز سعره اليوم 500 جنيه، وأن مصنع خزف جراجوس كان يعج بالسائحين الذين كانوا يأتون فى أفواج إلى المصنع لكى يستمتعوا بمشاهدة الفنانين الفطريين ويقومون بشراء إبداعاتهم من الخزف لكن رحلات السياح إلى جراجوس توقفت قبل سنوات لأسباب متعددة. وعن المنتجات الخزفية بمصنع جراجوس يقول الفنان الفطرى المصرى فواز سيدهم سيفين، إن المصنع كان فى الماضى يعج بالفنانين والزوار من السياح وتمتلئ المعارض والبازارات السياحية بمنتجاته، وللأسف صار اليوم مهددا بالغلق، بعد أن تراجع عدد الفنانين الفطريين العاملين بالمصنع، فضلا عن أن المصنع يتكون من ثلاث بنايات: الأولى للمعرض، والثانية لفرن الحرق، والثالثة لأعمال تشكيل الطين والرسم.