الأحد 12 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

المبادئ الأخلاقية الحاكمة لاستغلال المياه الدولية

المبادئ الأخلاقية الحاكمة لاستغلال المياه الدولية
المبادئ الأخلاقية الحاكمة لاستغلال المياه الدولية




كتب: د.عبدالله النجار

الماء من أعظم النعم التى أنعم الله بها على الإنسان، حيث جعل هذا الماء هو أساس حياته، وسر بقائه وأساس صحته، وسبب سعادته، وهذا الاستطراد فى وصف أهمية الماء للحياة الإنسانية على وجه الخصوص، ولجميع الكائنات على وجه العموم، ليس مبالغًا فيه، وإنما هو تعبير صادق عن حقيقة واقعة يراها الناس بعيونهم، ويدركون أثرها بحواسهم، فالماء هو أساس الحياة لكل شىء قال الله تعالى: «وجعلنا من الماء كل شىء حى»، وقال سبحانه وتعالى: «وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح، والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون»، والماء هو أساس الحياة للوجود كله، قال الله تعالى: «وترى الأرض هامدة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج»، وفى هذا القول الكريم وغيره، دليل على أن الماء هو أساس الحياة للإنسان وغيره من الكائنات.
والماء ليس سببا لبقاء الحياة والمحافظة عليها فقط بل هو أساس الصحة، فلولاه لتحكمت الميكروبات والملوثات من بدن الإنسان وأوردته موارد الأمراض المهلكة، وقد اخبرنى طبيب عالمى مصرى ثقة هو الأستاذ الدكتور مجدى يعقوب أن غسل اليد يقى الإنسان من أمراض مهلكة يزيد عددها على الثمانين مرضا، وأنه يغسل يديه فى اليوم ما يقرب من مائة مرة، كما أن شرب الماء ينظف الجسم من السموم، ويساعده على طرد الأملاح الممرضة والمواد الضارة، كما يساعد أجهزة جسمه الحيوية على العمل، ولولاه لتوقفت الكلى ولجفت العروق وانتهى الإنسان.
والماء ـ أيضًا ـ كما هو سبب لبقاء الحياة وحفظها من الأمراض، يمثل أداة ذوق وجمال، به ينبت الزرع، ويحيا النبات الذى يتقوت منه الإنسان لضرورات حياته كالخبز والطعام الذى يصنعه ويطبخه، والفواكه التى يتلذذ بأكلها وتضفى على حياته لونا متميزًا من الرفاهية والمتعة، وبه تزرع الورود الجميلة التى تسر العين، وتفرح الخاطر، وتذهب كدر الإنسان عندما ينظر إليها أو يشم رائحتها، ومنه تصنع الشلالات والنوافير التى تتحرك وتعلو وترتفع بإيقاع هندسى منظم إذا ما تابعه الناظر نسى نفسه وترك همومه. وبهذا وغيره يكون الماء هو أساس الصحة والجمال والحياة للإنسان وجميع الكائنات والنباتات والجماد وكل شىء يخدم حياة الإنسان.
ولهذه المعانى فى الماء، أوجب الله المحافظة عليه وحرم تبديده فيما لايفيد، أو تلويثه بما يضر، فلا يجوز للإنسان أن يسرف فى استخدامه ـ لقول النبى ـ صلى الله عليه وسلم: «لا تسرف فى استعمال الماء ولو كنت على نهر جار»، ونهى عن تلويث الماء بالقذر أو غيره من فضلات الإنسان، فقال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لا يبلون أحدكم فى الماء»، وهذا الحديث يفيد النهى المجرم لكل تلويث للماء ولو بأدنى قدر من القاذورات التى تخرجه عن خصائصه التى من أهمها أنه سبب للحياة والصحة، ومن المعلوم بداهة أن الماء هو سر الحياة، فلا يجوز أن يحوله الإنسان إلى سبب للقضاء عليها، لأن الذين يفسدون صنعة الله أو خلقته فىالكون لا يمكن أن يكونوا إلا اعداء للحياة والوجود ومن يشرب من الماء، ثم يلقى فضلاته فيه لا يمكن أن يكون متحضرا أو عاقلاً، فإذا ما تواطأ على ذلك شعب بأكمله، وفعل ذلك، وقام بصرف فضلاته، وسموم مصانعه فى ماء النهر أو سمح به، يكون هذا الشعب قد تغافل عن أهم سبب من أسباب وجوده، بل وسمعته وكرامته، وعليه أن يتنبه لمخاطر ذلك التلويث فيقلع عنها فورا، ويمنع استمرارها حالا وذلك ما يتعين أن يكون من المشروعات الحالة ونحن نبنى مصر الجديدة.
ولما كان الماء على تلك الأهمية للإنسان، فإنه إذا كان المنتفعون بالماء ينتمون إلى بلاد مختلفة أو دول متعددة، فإن عليهم جميعا أن يهتموا بحفظ الماء من التلوث، وأن يكون ذلك التزاما عاما مشتركا بينهم جميعا، فلا يجوز إهماله أو التقصير فيه، بل يجب أن تكون حمايته مقرونة بالجزاء الرادع عند المخالفة.
وأما ما يتعلق باستغلال هذا الماء، فإن المشكلة فيه لا تثور إذا كان الموجود منه كافيًا، وفائضًا عن حاجة الدولة المطلة على موارده ومجاريه، بأن كان الموجود من الماء يكفى لحاجة تلك الدول، أما إذا كان الماء قليلاً ولم يعد قادرًا على تلبية حاجات الدول المطلة عليه، فهنا تكون الحاجة ماسة لعقد الاتفاقات، وإبرام المواثيق بين الدول حتى لا تستأثر دولة به دون الأخرى، وحتى لا تستغل إحدى تلك الدول موقعها الجغرافى على المنبع، فتقطع الماء أو تقلله على الدول الواقعة بعدها أو على المصب، ومن المؤكد أن هذا المعنى هو  الذى يمثل أهمية خاصة فى المبادئ الحاكمة لاتفاقيات المياه حتى لا يكون الماء سيفًا مسلطًا على رقاب دول هى صاحبة حق فى أن تحيا بمائه أو مدخلاً لظلم الدول المطلة على أوعيته من البحيرات والأنهار وغيرها فتثور النزاعات المؤدية إلى الحروب فيما بينها ويتحول الأمر إلى تقاتل وموت ينافى جميع معانى الحياة والجمال المرتبطين بالماء، وقد حرص التشريع الإسلامى على حماية المستفيدين بالماء من التردى إلى هذه المستنقع الآسن، وذلك عن طريق جملة من المبادئ التى يتعين أن تكون حاكمة للاتفاقيات المنظمة لاستغلال الماء ويمكن إجمال تلك المبادئ فيما يلى:
أولاً: أن الحياة الإنسانية متساوية وواجبة الحفظ لجميع البشر ومعناها لا يقبل التبعيض أو التجزئة وهذا المبدأ: «تكامل الحياة الإنسانية، وعدم قابليتها للتجزؤ» ليس مقررًا فى الإسلام وحده بل فى جميع أديان السماء، لأن حفظ الحياة أصل دينى مقرر فى كل الشرائع السماوية، قال الله تعالى: «من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعا»، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، وإذا كان معنى الحياة لا يقبل التبعيض والتجزئة، فإنه لا يجوز لأى دولة أن تستغل مورد الماء الدولى المشترك لتحيى نفسها، وتميت غيرها من أبناء الدول الأخرى، وإلا كانت بذلك المسلك، مخالفة لقيم السماء، وللاخلاق الإنسانية المقررة عند جميع العقلاء.
ثانيًا: العدالة الإنسانية، وهذه العدالة تمثل فكرة راكزة فى فطرة الإنسان، وقد اودعها الله فيه ليعتدل ميزان الكون، وحتى يستطيع كل إنسان أن يوازن بين المصالح والمفاسد فى الأمر، فيفعل ما فيه المصلحة الغالبة، ويترك ما فيه المفسدة الراجحة، وهذه العدالة الطبيعية الراسخة فى فطرة كل إنسان، لا تحول دون وجود العدل الإلهى الأسمى والأعلى، والذى يتدخل عندما تتعارض موجهات تلك العدالة الفطرية، وتتضارب مع بعضها بسبب تعارض المصالح، أو تضاد الأهواء، فيكون عدل الله، أو عدل التشريع هو السياج الجامع لما تناقص من مفردات العدل الإنسانى القابع فى فطرة كل إنسان، ومن المؤكد أن مقتضى العدالة يوجب ألا يقبل المتفقون على استغلال المياه الدولية لغيرهم ما لا يقبلونه لأنفسهم، وإذا كانوا لا يرضون على أنفسهم الظلم والغبن، فإنه لا يجوز لهم أن يرتضوه لغيرهم، لأن الإنسان لا يؤمن إلا إذا أحب لاخيه ما يحبه لنفسه، يقول النبى - صلى الله عليه وسلم - «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
ثالثا: مبدأ الجوار الدولى: وللجوار فى الإسلام حق يكاد يصل إلى حد القرابة السببية، فقد روي أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: «مازال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه»، وقال - أيضا - «والله لايؤمن - قالها ثلاثا - قيل من يا رسول الله؟، قال: من لا يأمن جاره بوائقه»، والبوائق: هى الأذى الذى يقع من الجار لجاره، فإن أذى الجار أشد ألما من أذى غيره، لأنه قريب من جاره والشاعر يقول: وظلم ذوى القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند أى أن ظلم القريب، ومنه الجار أشد ايلاما للمظلوم من ألم الجرح الذى يحدثه ضرب السيف، ومقتضى الجوار الدولى يوجب اقتسام الماء بالعدل، فذلك أقل ما يجب لمنع أذى الجار عن جاره.
رابعا: التبادل فى الاتفاقات الدولية: ومعنى التبادل فى الاتفاقات الدولية يتمثل فى أن تلك الاتفاقات تمثل عقودًا بين أطرافها، وإذا كانت كذلك فإنه يتعين أن يكون أساسها التبادل، وليس التداول، لأن التبادل يعنى أن كل دولة لا يجوز أن تنظر إلى حقوقها فى تلك الاتفاقات مجردة عن الالتزامات المفروضة عليها، التى تمثل حقوقا للأطراف الأخرى، وبالبناء على ذلك لا يكون لما يسمى فى بعض الاتفاقات الدولية المتعلقة بتقسيم المياه من «الدولة المقرر» والتى تكون عادة من دول المنشأ، أو اضفاء حقوق متميزة لدول المنبع على حساب دول المصب أو كما قيل مؤخرًا: إن من حق دول المنبع أن تبيع الماء كمورد طبيعى أصبح موردا للثروة، كما يبيع العرب فى الخليج البترول وأثروا من ورائه، ومن المؤكد أن مثل هذا القول غير سائغ لأنه يمثل قياسا مع الفارق، فالماء أساس حياة الإنسان مباشرة، أما البترول، فإنه أساس حركة الآلات والحديد الخام لحياة الإنسان بطريق غير مباشر، وشتان ما بين الأمرين.
وبعد، فإن ما ذكرناه من تلك الأفكار يمثل مدخلاً لاستلهام المبادئ الدينية المنظمة لاستغلال المياه على المستوى الدولى، لعله يكون مفيدًا فى تقنين الأوضاع بما يحقق المصلحة والسلام والله الموفق.