الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الصلاة ليست عماد الدين




 
لقد تمكنت منا محبة القديم بلا ضابط، لذلك ترانا وقد انغلق علينا الفكر بشأن العمل الصالح، فحصرناه فيما كان يقوم به السابقون من الصحابة - رضوان الله عليهم - من أعمال النوافل من صوم وصلاة وصدقة، وأصبح قيام الليل له معنى واحد محدد، وهو الصلاة وقراءة القرآن، وصار الاعتكاف بالمساجد أوج العمل الصالح فى مفهومنا السلفى.
 
والصلاة، والصوم، والحج، والصدقة، وإطلاق اللحى، وتلاوة كتاب الله وسائل يقوم بها العبد، ليرتقى بهمته، وليدفن شهواته، وهى من مبادئ الأعمال الصالحة ومهدها، لكن أنقف عند تلك المبادئ وذلك المهد أم نتقدم؟
 
ولقد أدلى الفقه القديم بدلوه فى عقائدنا، فقد أقام الأقدمون للإسلام أركانا خمسة، منها ما اختاروا تتويجه على تلك الأركان وهى فريضة الصلاة، فأشاعوا عنها أنها عماد الدين، وأن من أقامها يكون قد أقام الدين، ومن هدمها يكون قد هدم الدين، وأن تاركها ملعون وجاره ملعون أيضًا إن رضى به، بل جعلوها فارقًا بين الكفر والإيمان، ورأيى أنهم تركوا الأهم وعظموا المهم، لأن شهادة الوحدانية لله والإيمان برسوله هى عماد الدين، لكن نظرًا لبساطة عقولنا وتعودنا تركها للدّعة والكسل، ولتغلغل فقه الميراث فقد روَّجنا لشعار الصلاة عماد الدين بين أولادنا، فعلموا أهمية الأمر، ولم يعلموا عظمة الآمر جل جلاله، فترى أكثرهم لا يصلون أو يتفلتون منها.
 
ونظرًا لتقديسنا القديم والأقدمين ترى الثقافة الإسلامية القديمة قد راجت فى أفكارنا، وترانا ونحن نقاوم كل فكر لمُؤَلِّف جديد، ونتشكك فى توجهاته مخافة أن يكون مشكوكا فى إخلاصه، وهكذا تم قتل الإبداع والمبدعين وهم على قيد الحياة، بينما ترانا نصيح بلا واقع بأرض الواقع أن الإسلام والقرآن صالحان لكل زمان ومكان، ولست أدرى كيف تكون تلك الصلاحية الدائمة ونحن لا نقبل إلا أفكار الأقدمين!
 
لقد تم إنشاء أمة بلا هوية من دين الله إلا بالمناسبات الدينية، وذلك من تركيز الدعاة على ما كان يفعله الصحابة فى كل مناسبة، وفقدنا التمازج والتطور مع الحياة، وفقدنا الرَّشاد أيضًا، حتى أصبحنا فى ذيل الأمم بتهافتنا على القديم والقدماء، ولأن الوظائف والعمل لم تأخذ مكانها الصحيح داخل حظائر فكرنا، لذلك فإننا نؤدى العمل روتينا كما أدَّاه الأقدمون بينما نحسب أننا نُحسن صنعا، حتى تخلفت الأمة التى لا تعى أن الإبداع من العمل الصالح، وأن الوظيفة العامة من أسس العمل الصالح، وأن التميز فى الحرفة من العمل الصالح، بل راحت تصم أهل الفكر بالبدعة والخروج على النظام، بل تنعتهم أحيانًا بالانحلال الخلقى.
 
فالألعاب الرياضية، وجهاز التلفاز، ولصق الأوراق على الحوائط، وألعاب الأطفال، والاحتفال بالزفاف بغير الدف، والصور الشمسية... وغير ذلك كثير، يعده بعض سدنة التدين السلفى من الفسق أو من الخروج على السُّنة، وأصبح الموظف العام لا ترى عيناه ولا يعى عقله أى قربى لله حين يؤدى وظيفته، لذلك فلا مانع أن يرتشى، أو يُهمل، أو يتعلل للخروج قبل انتهاء ساعات العمل، ومع ذلك فهو يصوم، ويظن أنه يفعل العمل الصالح الذى أوصى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما ذلك إلا من القصور الفكرى عن حقيقة العمل الصالح، كما أصبح الحِرَفى والمهنى فى بلادنا أقل إخلاصا وإبداعا، بينما تراه فارسا لأداء نوافل الشعائر.
 
ثم توسع سدنة التدين فى إنشاء طقوس يدعون أن فيها ثمرة القرب من الله، فتوسعوا فى السُّنَنْ، وفرضوا رؤيتهم فى الواجب منها الذى يقرب الناس إلى الجنة، وقاموا بنشر ثقافة التفسيق ينعتون بها من خرج على تعاليمهم، وهكذا حبسونا داخل فقههم عن نوافل الشعائر، وشكل اللباس للمرأة والرجل وهيئتهما الخارجية، ودعوات للصباح وأخرى للمساء، وهذا للخروج وهذا للدخول، ودعاء لتفريج الكرب، ودعاء لإصلاح الأحوال، ودلائل الخيرات للصلاة على خير البرية - صلى الله عليه وسلم -حتى حولوا حياتنا وعلاقتنا بربنا إلى محفوظات قولية، نفزع إليها كما يفزع السحرة لتمائمهم، وهى توسعة غير لازمة لنشر وهم التقرب إلى الله، اللهم إلا من تغير نفسية من يدعو ليقيم لنفسه همة غير همته، ولا أعنى أن نترك الدعاء، لكن أعنى أن ننشغل أكثر بذكر الله فى طاعته بالعمل لعمارة الحياة ونفع الناس ولا نترك الدعاء.
 
لقد كان الخراب هو الإفراز الطبيعى لفكر التقوقع فى نوافل الشعائر والمأثورات لأبناء خير أمة أخرجت للناس، فكان البترول تحت أقدامهم، بينما هم يعيشون عيش البدو يرعون الأغنام كأسلافهم، ولا يفكرون إلا فى الإكثار من النوافل، حتى جاءهم أصحاب الهمم من كل الملل فاستخرجوا البترول من تحت أرجلهم ليقيموا به ثورة صناعية شملت العالم، وللأسف فات قطارها المسلمين دون أن يلحقوا به.
 
وقامت قطارات الثورة الرقمية والتكنولوجية والإلكترونية، ونحن ما زلنا نرى العمل الصالح فى المسبحة والنوافل، حتى أدركنا حضيض التخلف، وكأن الناس يأكلون ويشربون ويتنقلون بالطائرات والسفن ويسكنون الدور والقصور بنوافل الشعائر والمأثورات، وبينما يدعون الله أن يخسف عدوهم، فإن الله يقوى شوكته، ولا يستجيب لهم كما استجاب لنبيه ولصحابته الأجلاء، فلم يلبثوا إلا أسيادا على الأرض.
 
كما أصبح لنا مفهوم تطبيقى خاص للسنة القولية يبين مدى ما أصبحنا فيه من عنت فكرى، ولى أن أثبت تلك التوجهات التى سيطرت على أفكارنا وأعمالنا بطرح الأمثلة من سلوكياتنا وما كان يجب أن يقابلها من قويم السلوك، وكيف نسى المتدينون فى بلداننا الإسلامية ضرورة تأثر الفقه وتنوع أحكامه بتغير الظروف والأزمنة، لكن هيهات لمن يصيحون باسم السلف - بلا عقل - أن يعوا ما يدفعون إليه البلاد، وكيف أن نمط ذلك السلوك دفع الأمة للتخلف الحضارى، لذلك فقد اخترت مفهومنا عن العمل الصالح كنموذج لتبيان مدى الانحدار الذى هوينا إليه بتمسكنا بالسلوك الفكرى السلفى، وسأتناول سبل العلاج من منظور فقهى أراه قويما.
 
لكن فى البداية لابد من تصور شكل الحياة بالقرن السابع الميلادى حين نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى انتقاله إلى رحمة مولاه، فلقد كانت الأنشطة المتوفرة محصورة بين رعى الغنم والإبل والاستفادة من أوبارها وألبانها ولحومها، وتجارة التمر، وبعض الأنشطة اليدوية البسيطة، وسقاية الحجيج، وكانت الحرارة الشديدة لشمس النهار ذات أثر فى شكل ونمط الحياة، لذلك لا عجب أن ينحصر العمل الصالح فى زمانهم فى صلوات أو صوم أو صدقة، وخاصة أن تلك النوافل كانت حديثة عهد بالناس فكانوا يعمدون لها لتثبيتها فى أنفسهم وأولادهم.
 
لكنهم كانوا متطورين حياتيًا، فقد حفروا الخندق حول المدينة لحمايتها، ولم يكن على عهدهم خنادق، وركب طارق بن زياد الفُلك إلى إسبانيا، ولم يكن لأسلافهم أفلاك، وقاموا بتعيين أمراء للأمصار يعملون بأمر أمير المؤمنين بالمدينة، بينما لم يكن على عهدهم إلا نظام القبائل غير المتفقة أو المتعاهدة... وهكذا كانوا متطورين، لذلك دانت لهم الأرض ومن فيها.
 
ضرورة تطور مفهوم العمل الصالح
 
إنه مع تطور الأزمنة تنوعت وكثرت عناصر العمل الصالح، وتطورت الفوائد المرجوة من العمل الصالح وفق احتياجات كل عصر، فما كان يسعد الناس بالأمس لم يعد يُطرب أحدًا اليوم فضلا عن أن كلمة (عمل صالح) لا تعنى أن يكون الصلاح فى الذات فقط، بل يكون أفضل إن كان لخير المجتمع، فلا خير فى ذواتنا إن لم تنتفع بها الدنيا ومن عليها، فعمارة الدنيا هى من أسباب وجودنا نحن الصالحين، لذلك فإن أوج العمل الصالح لا ينتهى عند إصلاح نفسك أو اغتنام ثواب الاستقامة من الله، فإن ذلك إن حقق الأمان، فإنه لا يحقق السعادة فى الحياة، لأن عملك الصالح الذى ينفع الغير أفضل من عملك الصالح الذى ينفعك فقط، وهو الذى يحقق لك سعادة الدارين.
 
كما أن قيمة العمل الصالح تتفاوت، فالعمل الصالح الذى يفيد أكبر عدد من الخلائق أفضل من العمل الذى لا يفيد إلا جمعا صغيرا، والعمل الصالح الذى يمتد أثره مع السنين والقرون خير من العمل الذى يزول أثره سريعا، والعمل الصالح الذى تتجذر فائدته وأهميته فى الناس خير من العمل الذى يكون هامشى الفائدة.. وهكذا.
 
والعمل الصالح لا يعنى عملا صالحا فى وقت محدد أو مع أشخاص بأعينهم، فهو ليس بنزوة طارئة فى المناسبات لا تلبث سريعا أن تزول، بل هو عمل ممتد، ومستمر، ولكل الخلائق، بل يدخل فيه الإحسان إلى الأرض والسماء فنمنع عنها التلوث ونبحث فيهما من أجل إسعاد البشرية ونتعلم من خلالهما عدد السنين والحساب، فنحسب مطلع الهلال بأوائل الشهور العربية، ولا نحملق فى السماء كما كان إنسان القرن السابع الميلادى يفعل، ثم نزعم أن ذلك سنة.
 
لذلك ومع تطور الزمان، وتطور الوسائل وتغير ما كان يصلح للناس فى الماضى عنه فى الحاضر، كان لابد أن يتغير معهم معنى العمل الصالح يتغير الزمان، ونحن نتغير حتما دون أن ندرى، لكن ترانا ننغلق حينما نضيق النظر فى تعاليم الدين، فتنغلق حقيقة سعادة الدنيا فى وجوهنا.
وأضرب المثل لتغير نفوسنا، فما كان يفرح به فقير زمن الصحابة إذا ما منحته قطعة من القديد «لحم مجفف على حرارة الشمس»، لا تقبله نفس فقير اليوم وتعافه ولا تقبله، وأصبح للفتاة رأى فى اختيار شريك حياتها عن ذى قبل.. وهكذا.
 
أما عن تغير الأهداف الموضوعية للعمل الصالح ففى زمان كانت الصدقة فيه موضعية، أضحت فى زماننا هذا لها ضرورة موضوعية، فليس من أنفق ألفا من العملات المالية على أسرة كمن أنشأ متجرا لها بنصف هذا المبلغ، فإن أكثرهم نفعا للغير أكثرهم ثوابا، وإن قل إنفاقه، لأنك لا بد وأن توظف جهدك ومالك ليدر أكبر النفع على المحتاجين، وهو ما يتطلب منك جهدًا فكريًا لتتمكن من الريادة بين أصحاب الأعمال الصالحة، وذلك فضلا أن يكون العمل الصالح مما يرضى الله، وأن يكون خالصا لوجهه تعالى، وأن تبذل فيه أقصى الطاقة، فتلكم هى شروط العمل الصالح المقبول منذ بداية الخليقة.
 
شرح لحديث نبوى عن العمل الصالح
 
وعودة إلى الفقر الفكرى الذى أصاب الأمة من تقليد وترديد الفكر السلفى فى تنفيذ تعاليم النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الذى رواه عبدالله بن عمرو بن العاص بمسند الإمام أحمد، حيث قال: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه العشر»، «يعنى العشرة أيام الأوائل من شهر ذى الحجة».. فإن الصحابة الأجلاء حينما سمعوا ذلك من رسول الله أكثروا من الصلاة والصوم بالذكر فى تلك الأيام العشرة، وما كانوا يملكون من حيلة فى العمل الصالح غير ذلك.
 
لكن ترانا نحن بعد مرور أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان، ومع تطور دروب العمل الصالح والفوائد المرجوة منه للمجتمع، لا نزال نقلد إنسان القرن السابع الميلادى رغم أنف كل المتغيرات، فنحن لا نجد فى أفكارنا معنى عن العمل الصالح إلا الصوم، لذلك ترانا نهرول لنصوم فيها كما كان يفعل الصحابة ونظنه أوج الصلاح الذى أمر به النبي، ولم نعلم أن العمل الصالح تتغير قيمته وشكله وأهدافه تبعًا لمتغيرات الزمان، وهو ما سيتم بيانه فى السطور التالية.
 
نعم أعلم أن الإمام مسلم ذكر فى صحيحه بالحديث رقم (1163) مارواه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله «أفضل الصيام، بعد رمضان، شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة، بعد الفريضة، صلاة الليل، لكن ذلك عن أفضل الصوم وليس عن أفضل الأعمال، وهو يعنى شهر المحرم وليس شهر ذى الحجة.
 
تباين معنى العمل الصالح بتباين الزمان والمكان والشخصلو أننا كنا تطورنا بمفهوم العمل الصالح كما تطورت الأزمنة، لعلم الموظف أن كرسى وظيفته كمحراب صلاة لاستحى مما يفعله بوظيفته ولعلم أن ثوابه بالوظيفة العامة أعلى مقامًا وعددًامن ثواب صومه، ولا يقول قائل أن الموظف يصوم ويؤدى وظيفته فى آن واحد، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يريد منا فى الحديث المذكور عن العمل الصالح فى العشرة أيام الأوائل من شهر ذى الحجة أوج العمل الصالح، وليس العمل الصالح فقط، لأنه من المفترض أن يكون العمل الصالح هو نهج المسلم يوميًا، والأوج يكون بتلك الأيام العشرة كما يكون بشهر رمضان.
 
وما يكون أوج العمل الصالح إلا ببذل أقصى الطاقة فيما يفيد أكبر عدد من الناس ولأطول مدى زمنى، كل وفق طاقته وقدرته، والصوم والصلاة والتسبيح لا تتوافر فيها تلك الشرائط قدر ما تتوافر فى أداء الوظيبفة العامة بإخلاص وإبداع، وقدر ما تتوافر للمجتهدين والمبدعين من المهنيين والحرفيين الذين يريدون رفعة لأوطانهم إرضاء لربهم وطاعة له فى البحث لتنمية دروب تخصصاتهم الحرفية أو العلمية.
 
فالمدرس الذى يبدع وسيلة حديثة من وسائل التعليم إنما يقيم أوج العمل الصالح، والحرفى الذى يبتكر غير الحرفى المنفذ.. وهكذا، فلابد لكل منا أن يبذل قصارى جهده وفكره ليفيد من حوله، وليبقى ذكره بعد رحيله عملًا تعمر به الأرض والفكر، وليكن له تلامذة يسيرون على دربه، يؤكدون منهاج إخلاصه ميراثاً يسرى فى الأجيال.
 
ولى أن أسوق الدليل من السنة النبوية فيما قاله النبى صلى الله عليه وسليم، ولكن بداية لا بد من العلم أن أقوال رسول الله لها اختلاف وفق البعد الزمني، وأحياناً لها بعد مكاني، وأحيانًا أخرى تختلف وفق بعد المخاطب وهكذا فليس كل قول للنبى صالحًا لكل زمان ومكان كالقرآن فإن هذا الفكر اوقع الأمة فى أغلاط كثيرة.