الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

المداخلات الهاتفية.. وتجديد الخطاب الدينى

المداخلات الهاتفية.. وتجديد الخطاب الدينى
المداخلات الهاتفية.. وتجديد الخطاب الدينى




كتب: د.حسام عطا

فى القرى الصغيرة المعزولة، وفى القبائل الصحراوية التى تعيش فى البادية وفى الأحياء شديدة الفقر والجهل تضعف الحريات الشخصية إلى حد كبير، ويصبح سلوك الفرد محاطًا بمراقبة آلاف العيون، معظم تلك العيون تتحرك فى رءوس على أجساد من الانفصال التام بين سلوكها واعتقادها العلنى المستند لسلطة الجماعة، وبين سلوكها واعتقادها السرى الذى لا يراه أحد.
ولا يستطيع الفرد الهرب من الجماعة الصغيرة التى تحاصره لمجتمع أوسع وأرحب إلا إذا تمتع إما بميزة امتلاك المهارات الباهرة فى الكفاءة والقدرات الخاصة، أو بميزة الرفض التام لتلك الجماعة وسقوطه خارجها اجتماعيا ومهنيا وعائليا، مما يدفعه للتحرر حتى لو كان ذلك فى فضاء الطرد والنفى والتشرد.
ولذلك وفى إطار تاريخى من التغيرات الاجتماعية منذ 1952 حتى 1975 ثم التوترات الاجتماعية الحادة المصحوبة ببعث منظم للإسلام السياسى، وبهجرات واسعة من القرى للمدن ومن الأحياء الشعبية للأحياء العشوائية المستحدثة، ولهجرة الكفاءات المهنية للعمل بخارج مصر وخاصة لدول مجلس التعاون الخليجى، تم إعادة صياغة القاهرة ثم الإسكندرية وعدد من عواصم المدن الكبرى لتكتسب ثقافة المجتمعات الضيقة المحدودة، ولتشبه إلى حد كبير فى سلوكها القرى المعزولة وتجمعات الصحراء، ليست كل العاصمة بالتأكيد، وليس كل المدن الكبرى بالقطع، لكن فضاء العاصمة لم يعد الهروب إليه هو الهروب من الحصار الريفى أو القبلى، فلم يعد فضاء العاصمة والمدن الكبرى هو فضاء للحريات الشخصية كما كان قبل 1952 وحتى التغير الواضح فى السبعينيات من القرن الماضى.
كانت الحريات الشخصية مصانة مجتمعيًا محمية بالقانون، رغم التغير النسبى فى الحريات العامة، السياسية والفكرية منها على وجه التخصيص ما بين المنح والمنع، ولذلك ولغياب طويل لمفهوم الحريات العامة والخاصة على صعيد الممارسة المجتمعية فى الأحياء والبيوت والشوارع والمدن ثم فى الفضاء العام، ولذلك فإن صدمة ما بعد 25 يناير الثقافية صاحبها إنفلات حاد هو فى الحقيقة شوق للحرية لكنه يأتى من خلفية شديدة التعقيد وبلا تدريب عملى على أفعال الحرية.
ولذلك تظل ممارسة الحرية بمختلف معانيها تحتاج لفهم طبيعة المجتمع الذى يحتاج هو، قبل الدولة ومؤسساتها للإيمان بفعل الحرية.
وفى هذا السياق يمكن فهم الأزمة الأخيرة المتعلقة بقراءة التراث قراءة جديدة، فقد تجاهلتها المؤسسات الثقافية والفكرية والعملية والدينية والأكاديمية الرسمية والخاصة، وحملها الإعلام على عاتقه ولذلك أخذت هيئة المبادرات الفردية، ورغم دعوة الرئيس المنتخب عبد الفتاح السيسى لمؤسسات الدولة والمجتمع المدنى للسعى نحو تجديد الخطاب الديني، إلا أن المؤسسات خاصة المعنية سارت فى هذا الاتجاه بشكل إجرائى يستجيب للطلب الرئاسى، لكنه سير بطيء وسعى يخشى الصدام مع قوى المراقبة المجتمعية التربصية الريفية الطابع التى تعلن مالا تضمر، وتمارس مالا تعتقده فى أعماقها السرية.
ولذلك أصبح الإعلام، وبعضه مكتوب ومعظمه مسموع مرئى هو المعنى بتلك القضية، والمعالجات الإعلامية بطبيعتها لا تملك دقة ولا وقتًا ولا حجة، ولا طبيعة البحث العلمى المؤسسي، والإعلام بطبيعته يبحث عن المثير والغريب ويحاول المجىء بالجديد حتى لو كان صادما لمشاعر الجمهور العام، حرصًا على جذب أكبر نسبة مشاهدة.
ولذلك فالقضية يغيب عنها العقل العلمى والتفكير المنهجى البحثى اللازم والضرورى لمسألة شديدة الأهمية والحساسية مثل تجديد الخطاب الديني، وهو المكون الرئيسى فى ضرورة تجديد الخطاب الثقافى ككل، إذا ما فهمنا الثقافة كأفكار تتحول إلى سلوك فردى وفئوى وجماعى وعام.
ثقافة المجتمع ومدى إيمانه بالحريات العامة والشخصية هى القضية الحقيقية التى تقف خلف بيان الأزهر الشريف ضد المذيع إسلام بحيرى فى قناة القاهرة والناس، لأنه الأبرز فى الأداء الإستعراضى اليومى والأخطر فى تدعيم الثقافة الشفاهية وجعلها المصدر الرئيسى للمعرفة والمعلومات.
أما مناقشة القضايا الفقهية والتراثية عبر المداخلات الهاتفية والانفعالات المتكررة وتأكيد الحضور الشخصى للمتحدث أكثر من تأكيد ما يقوله من رأى ومعنى، وتحول المذيع إلى حكم بين متنازعين باسم الموضوعية، فهو التعبير عن أن مرحلة الانفلات الصارخ نحو الحرية بلا أسانيد ولا تقاليد ولا مهارات فى الخطاب العام لازالت قائمة.
أما الذى يجب تأكيده فهو أن السيد بحيرى ليس مارتن لوثر كنج، كما أن الأزهر ليس كنيسة حاكمة فى العصور الوسطى، والمؤكد أن غياب العمل المؤسسى العلمى الجاد فى تجديد الخطاب الدينى هو السبب فى كل هذا التوتر، كما أن عودة عواصم المدن وتجمعاتها لحريات حقيقية تؤمن بالحق الفردى فى الحرية الشخصية ، وحق المجتمع فى الحريات العامة ضرورة تحتاج إلى وقت، أما أن نظل مجموعات من العيون المليونية تراقب بعضها البعض فى مساحات متلاصقة من الزحام الضيق، فهذا ليس سلوك المصريين التاريخى، هو عرض للأزمة المتراكمة وسوف يمضى بلا شك، عندما نقرر حقًا أن نخرج من حيز الضيق المكانى ونعيد توزيع السكان على خريطة جديدة لمصر.