الأحد 29 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
تجربة الكتابة.. فضفضة قلم

تجربة الكتابة.. فضفضة قلم






يحتاج الكاتب المنتظم الذى يطالع القارئ بكتاباته بشكل دورى، أن يخرج من دائرة الرتابة يتلمس اعادة تجديد الذهن حتى لا تستغرقه هموم اللحظة الضاغطة، يعود قارئاً كما كان، يتزود بالجديد من صنوف المعرفة، ينتهى بها فى دورة لا تتوقف إلى طاولة الكتابة. ليكتشف أن عبء القراءة لا يقل عن عبءِ الكتابة خاصة فى واقعٍ بليدٍ يُنذرُ بمستقبل مرتبك، ولا تُوجدُ فى ظنى قراءةٌ محايدة بنفسِ قَدرِ غيابِ الكتابة المحايدة، فكلتاهماـ القراءةُ والكتابةـ تأتى متأثرة بلحظتها وما سبقَها؛ المناخِ والثقافة والضغوط، وما توّفرَ من معلومات، ورُبما الحالة النفسية والمزاجية، والتراكماتِ والخبرات الذاتية عند القارئ والكاتب، وجَدلية العلاقة بينهما، وهو واقعٌ يئن من تقابلية مراوغات الخبثاء وسذاجة البسطاء عند كثيرين.
والكتابةُ حالةٌ قبلَ أن تكون فِعلاً، لذا فهى تفاعلٌ يتطورُ مع متغيراتها، لا تتلون إنما تتشكل، ولو قُدِّرَ لكاتبٍ أن يُعيدَ كتابة ما سبق وكتبه لجاءَ الناتجُ مختلفاً بقدرِ تطورِ ونضوجِ رؤيته.
عبءُ القراءة أن تأتى مُدرِكة لملابسات لحظة الكتابة وعلاقاتِ أطرافها وفى تجربتى هذه، والتى ترجمتها مؤخراً فى صفحات ضمها كتاب مشاغب بعنوان «قراءة فى واقعنا الكنسى» حاولتُ أن أكسرَ الحاجزَ بين القارئ والكاتب أو بين السطور ومتلقيها سعياً إلى توفير أكبر قدرٍ من الوضوح فاخترتُ بين الأصدقاء ثلاثةً تنوعتْ توجهاتُهم وأجيالُهم أعرضُ عليهم صفحاتى كلما انتهيتُ من جزءٍ منها، وأتلقى ملاحظاتِهم ورؤاهم وانطباعاتِهم، وكانت تجربة ثرية وإيجابية، انعكستْ على السطور تُفكِّكُها وتنقحُها وتوضحُ ما غمُضَ منها.
وعرضتُ فقراتٍ من سطورى هذه على شبكة التواصلِ الاجتماعى Facebook، انتقيتُ الفقراتِ من بين تلك التى تتعرضُ لقضايا يراها البعضُ شائكة، ولم يعتَد الفضاءُ الفكرىُ والكنسىُ على طرحها أو الاقترابِ منها، ويخُط تحتَها وفى مواجهتها خطوطاً حَمراءَ سميكة، وجاءت التعليقاتُ مُحملة بانفعالاتٍ متباينة، لكنها جادة، وإن حملتْ فى ثنايا بعضِها مراراتِ الواقع، دفعتنى إلى العودة لطيفِ من سطورى اتأملُها وأضبطها، لحسابِ الموضوعية وعلى حسابِ الانفعالية، والتى ليستْ فى كل الأحوال شراً.
وبين أصدقاء الواقع وأصدقاء العالم الافتراضى تشكلتْ الكلماتُ وتواصلتْ الكتابة، بينما تشدو «ماجدة الرومى» بواحدةٍ من ابداعاتِ «نزار قبانى».. كانتْ تتساقطُ بعضُ كلماتها على أوراقى.
كلماتٌ ليستْ كالكلمات / تتساقطُ زخاتٍ زخات /تحملُنى لمساءٍ وردى الشرفات / كلماتٌ تقلبُ تاريخى / تبنى لى قصرًا من وهم / لا أسكنُ فيه سوى لحظات، وأعود / أعود لطاولتى، لا شىء معى إلا كلمات!
كنت استشعرُ عبءَ الكتابة، وليس الصياغة، لأسبابٍ عدة؛ فأنا بها أقترب من قُدس أقداس، من الكنيسة، وأواجه مصالحَ استقرتْ ومراكز قانونية تشكَّلت، واتواجه مع مفاهيمَ وقرتْ فى ذهن كثيرين بفعل إلحاح تكرار، فى بعضه زأئف، وتحت وطأة تجريفٍ، بعضه ممنهج، للذهنيةٍ العامة، وتربصاتٍ تقابلُها تخوفاتٌ فى يومنا تتهددُ غدنا، وحرافيش يتسقطون قوتهم من موائدَ متنفذين فى الكنيسة والشارع، أو يتزلفونهم سعياً لمغنم أو موقعٍ فى يدهم مفاتيحُهما، وبسطاء يتحطمون كعشبٍ تحت اقدام أفيال المشهد فى صراعاتهم.
لهذا وأكثرَ كنتُ كمن يكتبُ تحتَ تهديد السلاح، على سِن القلم ألغامٌ وتحتَ الورق قنابلُ موقوتة.
شىءٌ من هذا سَطرَه الكاتبُ «عبدُ الرحمن الشرقاوى» (1920 ـ 1987) فى مسرحيته «الحسين شهيداً»، وقد صدرت ككتاب ضمن اصدارات مكتبة الأسرة 2002، ورغم ذلك مازالت تُطارد رقابياً وتمنع من العرض حتى الآن (2015).
مفتاحُ الجنة فى كلمة / دخولُ النار على كلمة / وقضاءُ الله هو كلمة / الكلمة لو تعرفُ حُرمة / زادٌ مزخور / الكلمة نور/ وبعضُ الكلمات قبور
وبعضُ الكلمات قلاعٌ شامخة/ يعتصمُ بها النبلُ البشرى / الكلمة فرقانٌ بين نبىٍ وبَغّى / بالكلمة تنكشفُ الغمة / الكلمة نور.
وعلى الجانب المقابل من النهر يكتبُ «الأنبا غريغوريوس» أسقفُ الدراسات العليا اللاهوتية والثقافة القبطية والبحث العلمى: كلمة الله نور
لكن حاملَ النورِ يجبُ أن يقفَ ويمشى بحيث لا يحجب النور عن السالكين فى طريق النور، وبحيث لا يكون لشخصه شئٌ من الظل يعوق سبيلَ النور، أو ينقصَ من جماله وبهائه.
خدامُ الكلمة مهمتهم أن يفسروا كلمة الحق بالاستقامة.
كنت ومازلت أطمح، بغير التفاف، أن تفجِّر سطورى طاقاتِ التغيير، رغم عَنَتِ المقاومة، وأن تفتحَ الطريقَ إلى مراجعة جادة وموضوعية لواقعنا القبطى والكنسى، تملك جرأة التناول والتحليل والاعتراف بحاجة هذا الواقع لتصحيحه قياساً على ما تملكه من أساساتٍ تنويرية، وما تسعى إليه، فى واقعٍ مقاوم وعنيد، لتعلنَ ما لديها من قيم.
قد أكون حالماً بزيادة، لكن التغيير يبدأ حُلماً، والتصحيحُ يبدأ فكراً.