الأحد 29 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اقتراب من الواقع القبطى الكنسى «1-4»

اقتراب من الواقع القبطى الكنسى «1-4»






على امتداد سلسلة من المقالات نقترب من الواقع القبطى الكنسى خلال القرن العشرين، وبامتداد يصل إلى اللحظة المعاشة، وما يشتبك معها فى الفضاءات المجتمعية وأحياناً السياسية، استناداً إلى ما جمعته أوراق كتاب صدر مؤخراً لى بعنوان «قراءة فى واقعنا الكنسى ـ شهادة ورؤية» ويقينى أن التعرف المتبادل يفتح الطريق لتكريس ثقافة الاندماج واستيعاب طرح المواطنة.
فى المراحل الإنتقالية، خاصة فى المجتمعات التقليدية، يكون الارتباك هو السمة البارزة فيها، كناتج طبيعى لمقاومة القديم للخروج مما استقر لديه من مفاهيم وعلاقات ومراكز قانونية ومجتمعية وربما مصالح، وبين الجديد الذى يتبنى سعى التحديث والخروج من نفق طال، كانت الدنيا خارجة تموج بالتطورات والأحداث، وبزوغ اجيال جديدة تشكل وجدانها وذهنيتها فى مناخات مختلفة، وتحتاج إلى لغة مختلفة وربما أدوات مختلفة فى التواصل معها.
ويدق الأمر عندما يكون الأمر متعلقاً بمؤسسة دينية عريقة (الكنيسة)، وفى لحظة تشهد تغيرات خارجها حادة وعاصفة.
ولا يمكن بحال أن نغفل أن الكنيسة ظلت بامتداد أربعة عقود تحت قيادة البابا شنودة الثالث، والذى كان قبلها لنحو عشر سنوات قريباً من مركز اتخاذ القرار بها، باعتباره اسقفاً عاماً للتعليم، وكانت له رؤيته ومنهجه فى التعليم والإدارة، وكان الاشتباك مع الفضاء العام والسياسى أبرز معالمه، فى مرحلتى الأسقفية والبابوية، وعندما رحل كان مجمع الأساقفة بجملته من تلاميذه واختياراته، وكان لهذا انعكاساته على مشهد اليوم.
ولم يكن رحيل قداسة البابا شنودة الثالث بشيبة صالحة، ومجىء قداسة البابا تواضروس الثانى، مجرد تتال طبيعى فى سلسلة بطاركة وبابوات الكنيسة الممتدة، فقد حدث هذا فى لحظة فارقة تشهد انتقالات محلية وكونية، محلياً نشهد تغيرات سياسية وجيلية متسارعة وعاصفة، وفى العالم نشهد الانتقال العاصف من انساق الثورة الصناعية وعلاقاتها الرتيبة واحتكار المعلومة، وانعكاسات هذا على تعميق المجتمع الأبوى، إلى الثورة المعلوماتية وقفزات تقنيات التواصل، وشيوع المعلومة، وتفكيك المجتمع الأبوى العتيد، ليقفز الزمن فيصبح العامل الحاكم فى علاقات الناس والإنتاج والدول، ويلقى بظلاله على أداءات ومطالب اتخاذ القرار.
كنسياً كان الانتقال رغم حتميته صادماً، فقد شغل قداسة البابا مواقعه التدبيرية بامتداد نصف قرن (1962 ـ 2012) أسقفاً لعشر سنوات، ثم بابا وبطريركاً لأربعين سنة، ولم تكن مجرد عدد من السنوات بل كانت مسرحاً لتقلبات سياسية عارمة اشتبكت مع الكنيسة واستهدفت سلامها ووجودها، وكان البابا فى القلب من عواصفها، وكشأن القيادات التاريخية التى يمتد بها الإقامة فى مواقعها، حدث تماهى بينها وبين الموقع، بما يمثل عبئاً يقيد حركة من يخلفها، إذ تظل المقارنات بينهما قائمة لسنوات، وتظهر معها مقاومة من استقرت لهم مواقع ومراكز ومكتسبات بامتداد النصف قرن، لمحاولات المقبل إعمال رؤيته أو مراجعة ما كان والاقتراب مما يستوجب التصحيح أو الإصلاح.
ولما كان من الثابت أن التجارب والشخوص لا تستنسخ، نكون أمام اشكالية حقيقية، تواجه البابا تواضروس فى مهمته المعقدة والمتشابكة، مع عديد من الأطراف داخل الكنيسة وخارجها.
ويواجه البابا تداعيات الانتقال من موقع الرجل الثانى فى إيبراشية نائية، وفى ظل مطران له ثقله وخبراته، ومن موقع صاحب الخيارات التنفيذية المسالمة، إلى موقع الرجل الأول فى الكنسية على اتساعها، وإلى موقع صاحب القرارات الفاصلة، التى تفرض عليه المواجهة والحسم، بما يستوجب معرفة وتقدير تشابكات وتشعبات علاقات الموقع الجديد.
وبين هذه وتلك تأتى السمات التى يفرضها المكون الرهبانى على كل من تشكل قدرٌ من وجدانه فى منظومة الرهبنة، فيشق عليه، أحياناً، تنوع وتعدد الرؤى والأطروحات، فينحاز الى قناعاته، وخياراته، وقد اعتاد على معاندة ذاته ومقاومتها فى جهاده النسكى، فيصطدم مع المناخ العام ومع أجيال خرجت عن السيطرة بفعل الأنفتاح المعلوماتى والتغيير الجيلى كواحد من تداعيات ثورة الاتصالات وسيولة المعرفة، أضف اليها خفوت التلمذة والإنقطاع الجيلى الحاد والعاصف.
فى هذا السياق يسير الكتاب الذى نحن بصدده، بالاقتراب من المحاور الرئيسية التى تشكل تحدياً حقيقياً لعبور المرحلة الانتقالية واستكمال مسيرة الكنيسة كما أرادها الإنجيل والمسيح، تأسيساً على موروثها الصحيح باعتبارها كنيسة تقليدية آبائية محملة بالمقاربة بين الأصالة والمعاصرة، أو بين الموروث والتحديث، وهى مهمة شاقة فى مناخ مازال يعانى من التراجع المعرفى الأبجدى والثقافى، وربما إلى درجة الانقطاع المعرفى عن جذوره اللاهوتية والروحية.