
كمال زاخر
اقتراب من الواقع القبطى الكنسى «3 ــ 4»
ما زلنا نقترب من واقع الكنيسة المصرية «القبطية الأرثوذكسية» وفق الطرح الذى قدمه كتاب «قراءة فى واقعنا الكنسى»، لنكتشف أن الانقطاعُ المعرفى اللاهوتى يتجدد مرة أخرى وبشكل أعنف بالإنتقال القسرى من القبطية إلى العربية «ما بين القرن العاشر والقرن الثانى عشر» لأسباب سياسية وتعنُتِ الحكام وإرهابهم، وهم فى جملتهم قدموا إلى الحكم من خارج مصر، وما بين الانتقاليين أو لنقل الإنقطاعيين، تشهد الكنيسة محاولاتِ إعادة بناء منظومةٍ فكريةٍ لاهوتية باللغة الجديدة، لكنها تتعثر لأسباب موضوعية، داخل الكنيسة، التى لم تكن وقتها قد تمكنتْ من معرفة اللغة الجديدة بالقدر الذى يمكنُها من الترجمة والنقل الدقيق، فضلاً عن المقاومات العاتية، من خارج الكنيسة والمطاردات التى كانت تعانى منها.
ويزداد التوجس مع ارتباكات النصف الثانى من القرن العشرين، وإنشغال الكنيسة بقضية الوجود والبقاء، ومقاومة إرهاب الجماعات المتطرفة واختلالات النظم الحاكمة، ويتعطلُ مشروعُ الكنيسة التنويرى، الذى بشَّر به الأستاذ نظيرُ جِّيد فى صدر شبابه، على صفحات مجلة مدارس الأحد «1947ـ1954» ثم ألهبَ به حماسَ الشباب حين يصير أسقفاً للتعليم باسم الأنبا شنودة «1962ـ1971» ثم يتعثر بفعل مصادمات وتحديات مرحلة البابوية «1971ـ2012».
وبين المراحل الثلاث يزدادُ التوجسُ والتخوفات فى الشارع القبطى من محاولات ممارسة القراءة النقدية للواقع الكنسى والقبطى والنظر إليها بريبة باعتبارها دعماً لمحاولات هدم كيان الكنيسة، وفى بعضها تُعتبر فى الذهنية السائدة نقداً لقداسة البابا شنودة الثالث، وإنكاراً لدوره وجهوده فى قيادة الكنيسة، وتوسعاتها بامتداد الجغرافيا حتى إلى امريكا وأوروبا، وفى التوسع الداخلى برسامات الأساقفة عبر تقسيم الإيبارشيات القائمة ورسامة المزيد من الأساقفة العموم بغير إيبارشيات، ليتحول إلى أيقونة مصرية، خاصة بعد مواقفه التى تُحسبُ أغلبُها له فى مواجهة السادات ونظامه، والتى انتهت إلى واحدة من القصص التراجيدية بعزله من منصبه بقرار رئاسى واعتقاله بدير أنبا بيشوى بصحراء وادى النطرون «5 سبتمبر1981»، وتتعمق صورته فى الذهنية الأسطورية باغتيال السادات «6 إكتوبر1981» على يد الجماعات التى منحها الحياة، والتى فُسرت، شعبوياً، بأنها عقوبة إلهية جزاءَ ما فعله مع رجل الله، ورغم هذا يبقى البابا رهنَ الإعتقال ثلاثَ سنواتِ ونيفا، فى حكم حسنى مبارك ويعود إلى كرسيه فى «6 يناير1985» عشية عيد الميلاد.ِ
ويمثل قداسة البابا شنودة الثالث حالة يمكن أن ترتقى إلى مستوى الظاهرة، بحد تعبير الدكتور يونان لبيب رزق، استاذ التاريخ والمؤرخ البارز، فى مقاله بمجلة المصور «22 /7/1994»، فقد اشتبك قداسته مع الشأن الكنسى مبكراً، وهو بعد طالبٌ بالمرحلة الجامعية على صفحات مجلة مدارس الأحد «1947 ـ 1954»، كاتباً فمسئولاً فعلياً عن تحريرها ثم رئيسَ تحريرٍ رسمياً لها، ويخرج منها إلى دير السريان بصحراء وادى النطرون قاصداً الرهبنة «1954»، ومنها إلى سكرتارية قداسة البابا كيرلس السادس «1960 ـ 1962» ليُرسم أسقفاً عاماً للتعليم «1962 ـ 1971»، ويعتلى الكرسىَ المرقسىَ بطريركاً وبابا للكرازة المرقسية «1981 ـ 2012»، وفى كل هذه المحطات يكون حضورُه مميزاً، ومعاركُه فارقة، لها وعليها، خلَّفت وراءها مريدين وجرحى، تكونت على ضفافها مراكز قوى وظفت قربها منه لحساب مصالحها وتحمل قداسته فواتيرها، وأثارت قضايا مازالت تحت الفحص.
كان للمناخ العام خارج الكنيسة دورٌ فى صناعة النجم، وكانت لقدراته الشخصية أيضاً دورُها، وصار عند قاعدة شعبية عريضة وجارفة بطلاً، وحل ضيفاً على موائد النقد عند غيرها، فى دوائر السياسة والكنيسة، كان مقاتلاً لا تلين له قناة، وما زلنا بحاجة بعيداً عن التقييمات الإنفعالية إلى شهادات من عاصروا مراحله المختلفة واشتبكوا معها ومعه، اتفاقاً واختلافاً، وتفسيرهم للانتقال فى علاقاتٍ عديدة من الحميمية إلى المصادمة التى تصلُ فى بعضها إلى القطيعة خاصة مع رفاق سنى التكوين، وزمالة رحلة اللجنة العليا لمدارس الأحد، وتحالفات ما قبل البابوية، ومن ساندوه فى معاركه حتى مشارف السبعينيات من القرن العشرين، فلا يمكن فهمُ الكثير من الأحداث التى مرت بها الكنيسة فى عصره بعيداً عن فهم شخصيته، النشأة والتكوين ومنهج التفكير والمؤثرات الحياتية.
هل كان لهذا دوره فى الارتداد بالكنيسة من المؤسسة إلى الفرد، لتتسللَ إليها المركزية وتنتقل إلى الإيبارشيات على مستويات متعددة لتصبح نسقَ إدارة، فتختزل التعددية التى تميزُ الكنيسة إلى فرد، وتنتج كلَ أمراض الفردانية؟
مازالت فى الجعبة أسئلة نطرحها وننتظر اجاباتها، نعود لنلتقى فى مقال قادم.