الأحد 29 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
مقهى المعاشات الافتراضى

مقهى المعاشات الافتراضى






من يتجول بين المواقع والصفحات فى عالم التواصل الاجتماعى يكتشف أن بعضها تحول إلى مقهى تحاكى تلك التى تنتشر فى الأحياء الشعبية، وقد ضاقات بروادها مساكنهم المختنقة والمتلاصقة، يحمل مرتادوها معهم اخفاقاتهم وعدم تحققهم، يجترون شعارات تجاوزها التاريخ، يحكون بغير ملل عن أمجاد ولت مع عصر الأيديولوجيات، ويصرون أنها ما زالت صالحة للخروج من نفق طال، ويتحدثون عنها وكأن الزمن قد توقف عندها، فى مشابهة لأهل الكهف الذين لم يدركوا الفارق الزمنى بين دخولهم وخروجهم فحسبوه يومًا أو بعض يوم.
ولم تستطع موجات الثورة المتعاقبة بين يناير ويونيو أن تخرجهم من سباتهم، فتجدهم يحمّلون اللحظة عورات الأنظمة التى ولت وبعضها أُقتلع بفعل الثورة، فى دورتيها، يناير التى ازاحت نظام الفساد، ويونيو التى اطاحت بحلم النكوص الى ما قبل الدولة، رواد مقهى المعاشات الافتراضى يعيشون التناقض فى أجل صوره، يلعنون الفساد ويترحمون على أيام مبارك، يطالبون بدولة مؤسسات ويتهكمون على البرلمان قبل أن يعقد جلساته النوعية، يغسلون أياديهم من حراك الإخوان ويدعمون تشكيكهم فى كل خطوات الخروج من النفق.
يستخدمون ابداعات ثورة الاتصالات التى احالت الأيديولوجيات التقليدية الى المخازن، ويستدعون الرؤى الشمولية مدخلاً لحلول متوهمة، يدعون الناس الى مقاطعة الانتخابات البرلمانية ويشكون من ضعف البرلمان ويتهمونه بأنه لا يمثل الشارع، يشكون من فساد الكيانات الاقتصادية الخاصة والعامة فى الأداء والكفاءة والإنجاز ويملأون الدنيا صراخاً من تولى القوات المسلحة الإشراف على انجاز مشروعات البنية التحتية، شبكة الطرق العملاقة والجسور والأنفاق التى توفر قاعدة تنطلق منها الثورة الصناعية الإنتاجية.
يتحدثون عن تحالف قوى الشعب العاملة ويستبعدون القوات المسلحة من موقعها الأثير والمتقدم فى هذا التحالف ويتحدثون عنها باعتبارها «آخر» خارج السياق الوطنى، كم بيننا من المضحكات المبكيات.
لندع رواد مقهى المعاشات الافتراضى يستهلكون ما بقى لهم من عمر افتراضى، ونعود إلى الواقع، الذى يحتم علينا الانتقال من الثورة ـ التى هى لحظة غليان ـ إلى الدولة باعتبارها حياة ممتدة، تجدد واقعها وتخرج من أسر خبرات مؤلمة لتلحق بركب التنمية والتقدم، فى استرشاد بتجارب دول عديدة خاصة فى الجوار الأسيوى، سنغافورة والهند مثالان، كيف استطاعا أن يحولا التعدد القومى والدينى والطبقى إلى طاقات إيجابية، وكيف استطاعا أن يخرجا من حزام الفقر والجهل إلى براح الاقتصادات القوية، وكيف أعادا للقانون سيادته فكانت العدالة والمساواة ومعايير الكفاءة، لينحسر الفساد الذى كان يومًا خبز يومهم.
أدعوكم للتوقف قليلاً أمام تجربة سنغافورة، وأنصحكم بقراءة ما سطره الصديق الكاتب الصحفى شارل فؤاد المصرى عنها ضمن عدة بلاد اخرى فى كتابه «رحلات ابن فؤاد فى وصف البلاد والعباد»، ونكتشف معًا أن السنغافوريين قبلوا التحدى بعد استقلالهم ـ 1956 ـ وحصلوا على الحكم الذاتى 1959، واتفقوا على رفع شعار «التسامح والتعايش» فى التعامل فيما بينهم خاصة أن لديهم عدة عرقيات واثنيات واجناس وألوان وأديان مختلفة، وهو تعايش فرضته قوانين صارمة، وإدارة حازمة  لعقلية أرادت لهذا البلد أن يكون متقدماً هو رئيس وزرائها المؤسس لسنغافورة «لى كوان يو» الذى وحد بلاده فوق التقسيمات المتعددة، وبدأ فى شق الطرق وإنشاء جيش قوى وطارد الفساد بجسارة، لتنتقل بلاده من العالم الثالث إلى العالم الأول، ويرصد الكاتب أن أهم العلامات المميزة لتقدم سنغافورة التخطيط العمرانى، وكان التعليم هو الأساس الذى انطلق منه التقدم، ولديه ثلاثة أنظمة للتعليم الأول المدارس المتفكرة والأمة المتعلمة؛ ليخرج مواطنون قادرون على التفكير ومدركون لمسئولياتهم تجاه عائلاتهم ومجتمعهم ودولتهم، والثانى الابتكار والمشروعات» ويركز على تطوير مهارات التفكير الإبداعى بين الطلبة والموظفين، أما الثالث بحسب رصد وتوصيف الكاتب شارل المصرى هو «تدريس أقل وتعلم أكثر» يركز على فعالية التدريس وتعزيز جودة التفاعل بين الطلاب والمدرسين وتزويد الطلاب بالمعارف والمهارات الاساسية والقيم لإعدادهم لمواكبة الحياة العملية خارج البيئة المدرسية.
يلخص الكاتب سر نجاح سنغافورة فى وقت قياسى: امتياز الحكم، وانفتاح الاقتصاد، وصنع البيئة المشجعة للاستثمار، وبناء الثقة والعلم والاتصال بالآخرين.
هل وصلت الرسالة؟.