الأحد 29 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الوطن.. تحدى الخروج إلى النهار!

الوطن.. تحدى الخروج إلى النهار!






أجدنى مضطراً مجدداً لاستحضار مقولة «آفة حارتنا النسيان» التى نحتها فى الضمير الأدبى، كاتبنا نجيب محفوظ، واستحضرُ معها مشهداً سجلته التوراة فى سياق رصدها لخروج موسى وشعبه من مصر، وعبورهم البحر الأحمر، وقد طال بهم الترحال فى فيافى ودروب صحراء سيناء، وبعد أن تولى الله إعالتهم، وأنزل لهم «المن والسلوى» فإذا بهم يتذمرون على موسى ويتهمونه بأنه أخرجهم من أرض مصر ليميتهم فى الصحراء، ولا يتذكرون من خيراتها إلا الثوم والبصل والكرات، وليتعجب القارئ.
ش»ء ما يحدث بيننا، إذ ونحن نجابه سعى النظم الغاربة للعودة، سواء نظام مبارك الذى رسخ لفساد مازلنا نعانى من محاوره وتغلغله فى مفاصل المجتمع والدولة، حتى صار خبز يومنا، أو نظام الدولة الدينية، الذى لم يحتمله الحس المصرى ليلفظه فيذهب غير مأسوف عليه، بعد أن روع الوطن لعام، كاد فيه أن يفرط فى أطرافه لولايات الجوار فى حلم الخلافة الأثير لديه. بينما نجابه هؤلاء مجتمعين تارة ومنفردين تارة، تسرى موجات تنشر التبرم، وتتربص بكل خطوة ينتهى إليها نظام 30 يونيو، ليرأب صدعاً تعمق بامتداد نصف قرن، وقد نفهم أن يتبنى هذا التبرم والضجر كوادر النظامين الغاربين، لكن كيف نفهمه ممن عانوا من نير تلك الأنظمة، العله النسيان، الذى تغافل عن تضخم تلك العقود وأزماتها الطاحنة، فى كل مفاصل الحياة، والخطايا الاقتصادية التى فجرت أزمات الإسكان والتموين، والخدمات الأساسية، وتركت المرافق الحيوية دون تحديث أو إحلال، لتتوالى انهيارات الاقتصاد، الذى استنزفته مغامرات عسكرية، ما بين 48 وحتى 67، وبينهما حرب اليمن الكارثية، حتى كان النصر فى اكتوبر العظيم وما سبقه من ملاحم حرب الاستنزاف، وإعادة بناء الجيش المصرى، ويزداد حمل الاقتصاد ثقلاً.
بالتوازى كانت منظومة قيمنا المصرية تترنح تحت وطأة الغزو الفكرى المتصحر، فى دورة جديدة من دورات صراع النهر والصحراء، وبين المزارع والراعى، وبين الحضارة والبداوة، وكان لحضور البترودولار فى مقابل معاناة التجريف الاجتماعى والاقتصادى دوراً فى هزيمة قيم النهر والمزارع والحضارة.
كانت الثورة متوقعة، وحتمية، وكانت المعاناة تكتب شعارها، عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة انسانية، جاءت الثورة وغاب الوعى السياسى فكان أن اختطفت، ومجدداً يسبق الشارع النخب، التى اكتفت بالتنظير، وكثيرها راح يرتب تحالفاته ليحقق مصالحه الضيقة، فإذا بالشارع يمور ويثور مجدداً، ويدرك أن مغازلة حسه الدينى خدعة ومراوغة، لتتجدد الثورة ويسترد الوطن.
وكان الاقتصاد يزداد ترنحاً، وتتعمق اختلالاته، بفعل تراكمات ما سبق، وبفعل مدخلات لقوى اقتصادية عاتية ترى فى مصر عائقاً أمام مصالحها المتوحشة، فتزيد ضغوطها على اقتصاد مصر، على محاور متعددة، وتجد فى الفاسدين خير معين، ويصبح لدينا هياكل مؤسسية، مفرغة من مضمونها، ودولاباً حكومياً استغرقته البيروقراطية، ولم يقربه التطوير والتحديث الذى جاءت به ثورة تقنيات المعرفة والتواصل، لنزداد تخلفاً وعزلة، وبدلاً من التكاتف الجاد يذهب كل منا فى طريقه، وتتخاذل النخب مجدداً، وتردد ما يبثه مضارو وجرحى الثورة، بقلب بارد وعقل فقد ظله، بل وينظمون موجات من التشكيك فى كل عمل على الأرض، ويتطاولون على الجيش، سر مصر وسر صمودها ووحدتها، بحكم تكوينه الذى لا يقوم على طبقة أو عرق أو مذهب، ليصبح بوتقة وطنية ينصهر فيها شبابنا ولا يعرف من خلاله ولاءً لغير الوطن.
هل نحن أمام طور جديد من أطوار «خيانة النخب» للوطن؟
عندما يستبدلون العمل الجاد والمشاركة الفكرية ليحل محلهما حديث التهكم والتشكيك؟
وعندما يروجون أن الفساد والبطالة والانهيار الاقتصادى وتداعيات التضخم، وتراجع الأداء الحكومى، ومعاناة المواطن، بدأ مع وبسبب نظام 30 يونيو، وكأننا كنا قبلها فى نعيم مقيمين؟
وعندما يتغافلون ويسفهون ما تم على الأرض من تأسيس جاد وفاعل للبنية الأساسية التى يقوم عليها البنيان الاقتصادى، من شبكة طرق جريئة استحدثت خطوط اتصال عبرها بين أرجاء البلاد، وداخلها. كدأب النماذج الناجحة فى تجارب العالم من حولنا.
وعندما لا يلتفتون إلى إعادة رسم حدود المحافظات، خاصة الصعيد الذى ظل بعيداً عن خرائط التنمية بامتداد قرن من الزمان، وقد ضم إليها ظهيراً صحراوياً يفتح الطريق لتنمية حقيقية وجادة.
رغم ضجيج هؤلاء فالحجارة تتكلم، دعونا نتكاتف لنخرج إلى النهار.