
كمال زاخر
إسعاد وأديب
كنت وما زلت أقف فى مربع المتفائلين، لأسباب عديدة، لعل أبرزها إدمانى لقراءة التاريخ، ومحاولاتى العديدة لفهم تشابكاته، لأجدنى أمام حقائق مهمة، أن دورات الانكسار والتراجع لا تدوم بل تفضى إلى دورات نصرة وتقدم، وأن الإنسان، فردًا وجماعات، هو صاحب ريشة رسم واقعه، بقدر إدراكه لقدراته، وانتباهه للمشاركة الجادة فى هذا.
وعلى الجانب الآخر من النهر تتربص بنا حملات التشكيك والتخوين وقبلها موجات التكفير، وأغلبها تنتجه الصراعات السياسية، فى دوائر متتالية، ومتداخلة، محلية وإقليمية ودولية، لكنها تنكسر على صخرة الوعى المجتمعى الذى يتشكل عبر مدخلات صحيحة، التعليم والثقافة والإعلام. ويحميه القانون المؤسس للقواعد المنظمة للحقوق والواجبات، والمبنى على العدالة.
ونكتشف بين أروقة التاريخ أن الحلول لا تأتى من فراغ، والأزمات أيضًا، وأغلب الحلول الفاعلة تلك التى تقف وراءها إرادة حقيقية لا تميل باتجاه المواءمات، يستوى فى هذا إرادة الشارع وإرادة السلطة الحاكمة التى تتلاقى عبر قنوات التواصل الصحى والمكاشفة والشفافية والحوار الموضوعى الجاد، لحساب الوطن، الإنسان والمكان والكيان والمستقبل.
وتبقى المبادرات الفردية والأفكار البسيطة هى النواة الحقيقية لفتح الطريق إلى تفكيك الأزمات والخروج إلى النهار، شريطة أن تجد تفاعلًا حقيقيًا ومبادرًا وذكيًا على اصعدة مختلفة، فى الشارع والمؤسسات والدولاب الاقتصادى ودوائر اتخاذ القرار.
ومثالنا، هنا والآن، مبادرتان انطلقتا من الإعلام الذى يبحث عن بوصلة تضبط اتجاهه، الأولى اطلقتها الفنانة، الإعلامية، إسعاد يونس، فى برنامجها «صاحبة السعادة» فى إطلالة ناعمة على زمن «الإعلانات» الجميل، لينتبه معها المشاهد إلى حقبة تسيد المنتج المصرى الذى توارى تحت ضغط وتغول المنتجات الأجنبية المثيلة، وجاءت نتائج المبادرة مدهشة، كان المثال منتجات مصانع قها للصناعات الغذائية المحفوظة، تأسست 1940، والتى انطلقت من محافظة القليوبية، فى تفاعل بين البيئة المحلية وبين الصناعة، فإذا بالشركة تعلن بعد المبادرة عن نفاذ المطروح من منتجاتها بل وإعادة تشغيل اربعة من خطوط انتاجها التى توقفت لسنوات طويلة، وتولد بارقة أمل فى اعادة الحياة لصناعة مصرية عريقة، ربما تعطى اشارة بدء لغيرها من الصناعات، وتنبه لمراجعة منظومة الصناعة بجملتها، وما يتعلق بها من دوائر سواء فى القوانين أو الإجراءات أو القرارات.
وتأتى المبادرة الثانية فى برنامج الإعلامى المشاغب «عمرو أديب» فى برنامجه «كل يوم» عنوانها «الشعب يأمر»، والتى ناشد فيها الكيانات الإنتاجية الكبرى خاصة فى السلع الغذائية والموزعين وسلاسل المتاجر الكبرى، وغيرها المبادرة بتخفيض اسعار منتجاتهما وعروضها بما لا يقل عن 20%، ولمدة محددة، وجاءت الاستجابات متسارعة.
ما يميز مبادرة «الشعب يأمر» أنها تأتى خارج سياقات حملات التبرعات المملة والساذجة، وأنها تحمل أبعادًا اقتصادية واجتماعية وسياسية، على رأسها إمكانية تحريك الأسعار ـ مؤقتًا - لصالح الطبقات المتوسطة والدنيا، واستطاعت القاء حجر فى مياه الأسواق الراكدة، واستطاعت أن تدفع باتجاه تفعيل الدور الاجتماعى للمجتمع التجارى الصناعى الخاص،الغائب.
وظنى أن المبادرتين، كل بقدر، استطاعتا المساهمة الفاعلة والناعمة فى تفكيك مخطط حشد الشارع لانفجار جديد يسعى لاسقاط الدولة والوطن، فضلًا عن حفز القوى السياسية للتفكير خارج الصندوق لطرح حلول متعمقة للخروج من الحالة الراهنة بدعم إعلامى يصل بها إلى الشارع والحكام واصحاب القرار، فى حراك سياسى غائب.
يبقى أن الأمر يحتاج الى قرارات وتحركات اقتصادية وتشريعية مكملة وداعمة، فى مجالات مراجعة القيود المعوقة لانطلاق عجلة الإنتاج، وتحفيز المبادرات الفردية، وفتح الأسواق، ومراجعة منظومة الرسوم والجمارك فيما يتعلق بالآلات ومستلزمات الإنتاج، وضبط معايير الجودة ورفع كفاءة العامل المصرى، وتحديث الإدارة وغيرها من التحركات الاقتصادية المدروسة.
وحتى لا تزول آثار تلك المبادرات بفعل دورة الأحداث وتنتهى إلى العودة الى ما كنا عليه، على قوى المجتمع المدنى والقوى السياسية المختلفة والأحزاب التقاط الخيط والمراكمة عليه من خلال تحرك حقيقى على الأرض، بما لديها من خبراء للعكوف على استكمال هذه المبادرات بدراسات متعمقة على الأرض، وعلى المجموعة الاقتصادية بالحكومة الإنصات والتفاعل مع ما يقدم لها من كل هؤلاء، وامتلاك شجاعة التصدى بقرارات فاعلة لتصحيح منظومات الضرائب والجمارك وقوانين العمل والرقابة على الأداء والجودة، وطرق أبواب المصنعين والمصدرين ودعم الجادين من الشباب فى هذه الدوائر، وتفكيك شبكة الإجراءات بحزم وحسم، وتجفيف منابع الفساد، ودعم الأجهزة الرقابية وتفعيلها.