الأحد 29 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
للوطن قبل الرئيس «1»

للوطن قبل الرئيس «1»






تتقدم الدول والأوطان والشعوب بمراكمة الخبرات واستخلاص الدروس من التجارب التى تمر بها، وتمثل ذاكرة الأمة الوعاء الذى يحتفظ بهذه الخبرات تتسلمها الأجيال وتعود اليها حتى تتجنب السلبيات وتعظم الإيجابيات فى مشوار بناء الوطن الممتد والمتجدد مع الزمن، وعلى الجانب الآخر من النهر يقف المتربصون ولا يتوقف سعيهم المضاد فى نحر شطآن هذه الذاكرة وتجريفها، بل وتزييفها أيضاً، بغية خلخلة تماسك الوطن توطئة لانهياره أو الانقضاض عليه.
وتشهد المراحل الانتقالية أجلى صور الصراع بين القوى الوطنية الحريصة على حماية الذاكرة وتنشيطها وبين تلك القوى التى لا تتوقف عن هدمها، ونحن الآن فى واحدة من اعتى مراحل الانتقال بفعل ثورتين أو قل مرحلتين متتابعتين من ثورة واحدة، تفجرت فى 25 يناير 2011 عندما تجمعت ارادات الغضب بعد أن شاخت السلطة آنذاك على مقاعدها بحسب التعبير الذى نحته الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل، ثم تجددت الثورة فى 30 يونيو 2013 بعد أن اختطفت يناير من جماعة فاشية سعت لترتد بالوطن الى نسق القبيلة، وتقزمه ليصير ولاية فى خلافة مزعومة.
وقد تطور الصراع ليواكب معطيات العصر وأدواته، ووجد المتربصون والحالمون فى جنون لعودة مستحيلة، وجدوا انفسهم أمام جدار شعبى صلب عصى على الاختراق، فراحوا يستحضرون هجوماً يلتف حول الجدار ويتسلل بين مفاصله فى اعادة انتاج لحصان طروادة الذى قامت عليه الأسطورة الإغريقية، كان حصانهم المعاصر موجات التشكيك وبث روح الإحباط، بالضغط الممنهج على متاعب واختلالات الاقتصاد والإيحاء بأنها منتج لسياسات ما بعد 30 يونيو، على غير الحقيقة وفى قفز على تراكمات فساد انظمة غاربة لم تكن تملك رؤية محددة ولا تخطيطاً، فعمدت الى ترحيل الأزمات بل وتعميقها، بالانتقال من نظام اقتصادى وسياسى الى نقيضهما، واللعب على مشاعر البسطاء والكادحين، ثم بالتحالف مع الرأسمالية المتوحشة، والتأسيس لفساد أتى على الأخضر واليابس، فضلاً عن تجريف منظومة قيم المجتمع النهرى والأرض الطيبة، لتزحف محلها قيم متصحرة جافة، وعشوائية قلبت موازين وعلاقات المجتمع رأساً على عقب.
موجات الحروب الممنهجة على الوطن هالها أن تمتلك القيادة السياسية جرأة اقتحام المشكلات وجسارة البدء فى الحلول الحقيقية لها، فكل من اقترب من هذه الحلول تراجع عنها قبلاً، فمازلنا نذكر كيف بدأ الدكتور عبد المنعم القيسونى روشتة العلاج عندما تصدى لغول الدعم وكيف تراجع الرئيس السادات عندما تحركت الجماهير رافضة هذا الحل، لنبدأ رحلة التضخم ودوامة اختلالات الاقتصاد، ويبقى الدعم غولاً يبتلع كل محاولات التنمية مع عوامل أخرى.
ولم يقل أحد أن حل «الدعم» كان وهماً تتحمل فيه الموازنة العامة للدولة الفرق بين التكلفة الحقيقية وبين سعر البيع للسلع والخدمات، وهو فرق يتحمله المواطن فى النهاية، لتدور دائرة التضخم، وتنفلت الأسعار رغم هذا بعد أن فقدت الانظمة والحكومات القدرة على مواجهة الأمر.
ويحل الاستيراد محل الإنتاج المحلى الذى حاصرته قرارات وقوانين وعلاجات خانقة، مزمنة ومتتالية، وتتولى البيروقراطية وكوادر الفساد المتحالفة مع اباطرة الاستيراد خنق المنتج المحلى، ويتفكك القطاع العام بعد أن افسدته ادارات تفتقر للرؤية والمهنية والأمانة، ويتضخم الدولاب الحكومى ليصير عبئاً على الموازنة، ويضم نحو سبعة ملايين موظفاً بينما طاقة إدارته بكفاءة لا تحتمل أكثر من مليون ونصف المليون موظف بحسب الدراسات الإدارية العالمية، لنصبح أمام شكل من اشكال البطالة المُقنَّعة، وتتعمق منظومة الفساد وتكلفته التى تنحر فى جسم الاقتصاد القومى.
وتغمض الحكومات اعينها عبر انظمة السبعينيات وما بعدها عن تجريف الأراضى الزراعية من جانب والزحف العمرانى عليها من جهة أخرى، بدلاً من ان يتجه الى الظهير الصحراوى الذى يحاصر الشريط الأخضر، وتتراجع المهنية ويتراجع التعليم وتنهار الثقافة، فى كل فروعها من أدب وفن وابداع، بفعل الغزو الفكرى المتصحر.
ولا ينتبه أحد أن ما نحن فيه منتج طبيعى لكل هذا، ولا يريد أحد أن يعترف بأننا إزاء مرحلة انتقالية تحتاج الى حلول جراحية لا محل لإرجائها، ويصر من لم يخرجوا من عباءة الأيديولوجيا على اعادة انتاج الحلول المؤقتة والمؤجلة والمرحلة للأزمة لتتحملها اجيالنا القادمة، ولا يلتفت احد لخطورة التهوين من الحلول الحاسمة الاستراتيجية والتى بطبيعتها لا تظهر نتائجها بشكل آن ومباشر. وهو ما سنعرض له فى مقال تال، فقط لننتبه الى مصلحة الوطن ولا ننساق وراء حروب التشكيك والإحباط.