الإثنين 10 مارس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
من لم يكن بيكاسو فلا يدخل علينا!

من لم يكن بيكاسو فلا يدخل علينا!






«نحن لم نعتد كثيرا أن نرى مثقفين من العامة والغوغاء».. هكذا كان رد أحد أعضاء السيناتور الرومانى حينما شرع أحد العامة فى إلقاء قصيدة يتحسر فيها على أيام الجمهورية وكان ذلك فى عهد الإمبراطور تيبريوس أى منذ ما يقرب من 2000 عام، مرت هذه القرون ولازالت هى نفس الأزمة، أزمة وجود الثقافة كمنتج متداول بين الطبقات العامة أى بلغة العصر بين السواد الأعظم فنحن نعرف دائما أن المنتج الثقافى خصوصا ذلك الإبداع القائم على فكر عميق وتعلُم قوى نعرف انه غير مؤهل للاستهلاك بين الطبقات الدنيا، وهذا لب الأزمة فى الترويج الفكرى وهى أن المنتج الثقافى تنتجه الطبقة المتعلمة والمثقفة لنفس الطبقة، فتجد الشعر والفن التشكيلى يخاطب أقران الفنان ويحاول المبدع فرد عضلاته الفكرية والنوعية التى تثبت للجميع أنه عالمى وأنه لايقل عن العباقرة من أبناء فنه، والحقيقة أننا فى مصر للأسف نعيش هذا المناخ الثقافى المفعم بالانعزالية ففى أسبوع واحد خلال العام الماضى طفت أكثر من 10 معارض للفن التشكيلى وكانت الحقيقة مزدحمة، لكننى لم ألتق هناك المتلقى، بل كنت ألتقى الفنانين أنفسهم فى دورات لانهائية من رد الزيارات والمجاملات المتبادلة وبعض التعبيرات العصرية مثل السيلفى على السوشيال ميديا.. (وكلمتين من إياهم)، كنت فى معرض الفنان الكبير والزميل فلان.. لكننى ظللت أتساءل.. أين الجمهور؟ أين المتلقي؟، لماذا لايجذب فنكم الحداثى والأكاديمى والنوعى والانتقائى وقل كما تشاء تعظيما وتبجيلا.. لماذا لايجذب رجل الشارع العادي؟!، لماذا لم أجد سائق التاكسى وطالب المدرسة وبائع السوبرماركت فى هذا الحدث الثقافى والإبداعى الذى من المفترض أنه يخاطب الكل دون تمييز؟!، وكنت والحق يقال أدقق فى اللوحات وأسمع القصائد والندوات وأنا أبحث فيها عن رسالة لرجل الشارع العادي، للعامة، للشباب الذين لايعرفون وارهول ودادا وكاندينسكى، والذين لم يقرأوا تيد هيوز واليوت وهربرت، الحقيقة لم أجد هذه الرسائل – إلا فيما ندر – كان الفن والإبداع لايعبر عن غير الفنانين أنفسهم فى انعزالية وتعالى وربما تهميش غير مقصود للعامة وكأنهم فى اللوكيوم الأرسطى ومكتوب على الباب – من لم يكن بيكاسو فلا يدخل علينا – وظللت أتساءل ما هو ذنب المتذوق العادى البسيط الذى يحلم أن ترتقى به كما يأخذ الكبير بأيدى الطفل ويصعد به درجات السلم، ماهو ذنبه أنك تحب أن توصل رسالة لطبقتك من الفنانين والمبدعين، أنك رمزى أو سريالى أو تجريدي، هو يبحث عن نفسه داخل عملك أنت هو يبحث عن ذاته وتاريخه وحلمه، كذلك الكتاب الذين يكتبون أعمالهم الإبداعية من بطون المعاجم فيستخدمون محاريب أبوللو ويصلون لكاليوبى وآراتو.. من أين للقارئ العادى أن يعرف الموساى أو ربات الفنون.
الحقيقة أن الانعزالية والذاتية وربما التعالى الغير مقصود من فنانين عصرنا الأجلاء هو السبب فى نأى الكثيرين من العامة عن تعاطى الفن كحالة ترفيهية مثمرة كما كان فى ستينيات القرن الماضى مثلا وقبلها منذ مطلع القرن العشرين حينما كان القارئ ينتظر القصة الجديدة لإحسان عبد القدوس أو نجيب محفوظ أو رسمة لبيكار فى الأخبار أو لجاهين مشفوعة بأبيات عامية تفوق الفصحى فى الرقى والحكمة، لن نقول كما يتذرع البعض أن السبب هو فساد الذوق العام لكن السبب هو فشل المبدع فى الارتقاء بالعامة والخروج بهم لعوالمه الإبداعية التى تشابه عوالمهم ولا أبلغ مثلا من أن العامة بل والأميين كانوا يتذوقون قصائد رامى وعمر الخيام وأبو فراس الحمدانى من صوت أم كلثوم بل كانت أغانى أم كلثوم درسا بليغا علم البسطاء والأميين الفصحى والغزل ورهافة الحس والمضمون دون أن يذهبو للدراسة فى المدارس أو الأكاديميات، ولأن أم كلثوم كانت تأخذهم فى صوتها لعوالمهم هم ولأحلامهم دون أن تستعرض علمها بموسيقى الجاز أو الكانتاتا والأوفرتير، أيضا كانت مسارح الريحانى والمهندس وغيرهم مزدحمة وأغلب جمهورها من العامة والذين لم يدرسوا شكسبير أو يطالعوا برخت لكنهم أحبوا المسرح لأن المهندس ومدبولى قدم لهم برنارد شو فى ردائهم هم، دسه بين أحلامهم وأقحمه فى مشكلاتهم كما قدم لهم من قبل وهبى والريحانى مولير فى تبسيط وفى ثوب مصرى أصيل.
ولعل انعزالية الطبقة المبدعة من خلال تقديم رؤاهم النوعية فى الفن هى أحد أسباب التحول الذى فتح الطريق لكل غث أن ينتشر بين العامة بل هم السبب الرئيسى فى أن يفسد الذوق العالم لجيل كامل فمن لا يجذبه الفن الراقى يفسح عقله للإدعاء ومن ثم يرى فى شخصية البلطجى أسطورة ويحلم أن يصبح مهرب سلاح ويصبح مثله الأعلى سواق التوكتوك الذى ينقل الممنوعات ويكون ثروة، ويحضرنى هنا مقولة للناقد الانجليزى وليم سكاميل حينما قال لقراءه فى جريدة الإندبندت البريطانية: «من لا يجذبه مسرح لندن مضطر للذهاب لحفلات الإستربتيز»، وكان سكاميل يعتب على المبدعين المسرحين حالة الجمود التى انتابت المسرح الإنجليزى فى ثمانينات القرن العشرين، وحينما دخل عميد الكاريكاتير الإنجليزى رونالد سيرلى أحد معارض فنان من هؤلاء الذين يتحججون بإفراز الحداثة ووجد مجموعة من اللوحات بلا أى ملامح قال مازحا: «لعلك نسيت أن تحضر اللوحات.. علينا أن ننتظر حتى غدا».
الحقيقة أن رجل الشارع العادى عليه أن يجد ما يألفه فى الإبداع حتى يستطيع أن يتعايش معه ولا نقصد هنا بالطبع تقديم فن من نوعية الفن الفارغ حتى تتناسب والمتلقى لكن المقصود هنا أن تطوع القالب الذى تعمل عليه كمبدع ليصبح أكثر ليونة ووضوحا وبمعنى أدق كلما كان الإبداع بسيطا، كلما كان أكثر انتشارا البساطة لاتعنى التفاهة والهبوط  بالمضمون لكنها تعنى النزول بعبقرية لمستوى المتلقى العادى حتى يشترك فى حلقة الإبداع وهذا أيضا أفضل للمبدع لأنه يوسع من دائرة جمهوره وشعبيته.
إشكالية انعزال المبدع وشعوره الدائم بأنه يبدع لطبقة معينة تضم الصفوة إشكالية حطمت مجتمعات وهمشت الفن ذاته لعصور متعاقبة ومنعته أن يكون إحدى الأدوات المثلى للارتقاء بالعامة كوسيلة للتطوير العقلى والفكرى والحسى من خلال مضمون ترفيهى حيث كان يقول كاليماخوس أيقونة الشعر السكندرى وأمين مكتبة الإسكندرية فى القرن الثالث قبل الميلاد: «نحن نكتب الشعر لأنفسنا ونصفق لأنفسنا ونحرم راكوتيس أن تحلم على مثاليته.. وراكوتيس ترقص كلها ليلا على الغث من الغناء».