الخميس 8 أغسطس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
أساطير الوعى والتلقى وأزمة التوحد الثقافى

أساطير الوعى والتلقى وأزمة التوحد الثقافى






حينما تسقط قناعتنا بالأسماء الرنانة والأساطير الثقافية التى حيكت على مدار نصف قرن ونيف، سوف تنفسح أمامنا الآفاق واسعة لننهل من الفن والثقافة بالمعنى الحقيقى دون عقد النزوع التى تربت داخلنا منذ أن بدأ الجيل الأوسط فى توريد اعتقاده لنا فى صورة تلقين، وهذا الاعتقاد كان قائم على الانبهار الأولى الناتج عن ذاتية شبة مطلقة ودعنا نوضح أكثر حتى يتسنى للجميع فهم القضية التى ننوى طرحها بعيدا عن التجريد، إذا سألت ثلاث فئات فى مجتمعاتنا العربية عن إعجابه فى مجالات الثقافة المختلفة – أو دعنا نقول المنتوج العقلى – فسوف تجد نفس الإجابة على الرغم من اختلاف التصنيف الفئوى لهؤلاء فمثلا بعض من العوام المهتمين بشكل ثانوى بالثقافة وهذه الفئه الأولى ثم فئة أنصاف المثقفين سواء صادقين أو مدعين يليها الخاصة وهم أيضا ليسوا فى مجملهم يخدمون الثقافة أو يتذوقونها بشكل جدى وحيادى إذا سألت أيًا من هذه الفئات سؤال بسيط عن الموسيقى الكلاسيكية تراه من أول وهلة يستحضر بتهوفن... أو الفن التشكيلى من أول وهلة أيضا يستحضر بيكاسو أو دافنشى وكأن الفن التشكيلى كله مختزل فى الجيوكاندا مثلا أو الموسيقى الكلاسيكية كلها مختزلة فى بيتهوفن، وهذه المشكلة الأولى نستطيع أن نقول إن أساطير البنية الثقافية عن الثقافة الأوروبية خلقت لدينا نوع من التوحد الثقافى – أو لدى معظمنا – فأصبحنا نتجه دائما للاختزال فنختزل الموسيقى فى بتهوفن والفن التشكيلى فى بيكاسو – فى فكرة الحداثة – وهذا حرمنا على مدار نصف قرن من الاستمتاع والتنظير، الاستمتاع مثلا بفنانين مثل: «موكا وجاكوميتى وباكسيت» وغيرهم على سبيل المثال لا الحصر، كما منعنا من الاستمتاع «برخمانينوف وسان سانز وبوتشيني» على سبيل المثال فى الموسيقى وأيضا من التنظير من أن ننتقل من وهم الفكرة الثقافية والرأى المسبق لرحابة التعدد والمقارنة لنعرف مثلا أن بيتهوفن لم يكن الأفضل على الإطلاق، وأن مندلسون مثلا كان أكثر انطلاقا وتألقا.
الحقيقة أن هذه القضية هى أحد أزمات الوعى والتلقى فى وطننا العربى وهى أزمة ليست بالهينة، فهى أنتجت ولا زالت تنتج أجيالا من المتوحدين ثقافيا ونحن هنا نقصد المثقفين ذوى النظرة الأحادية والحكم المسبق الذى تم تكوينه فطريا بسبب آراء الجيل الأوسط الذى خلق مسلمات غير صحيحة بل وشكلت ضررا بالغا لتيار الوعى الثقافى فى المجتمع العربى وأصبح الخلل فيما بعد قاعدة ومن ثم نتج جيل يهاجم كل من تسول له نفسه تصحيح هذه المسلمات الخاطئة فبدلا من أن نهاجم الجهل والتوحد الثقافي، أصبحنا نهاجم الانفتاح والوعى المتجدد نحو التعاطى مع الجديد أو حتى القديم المختلف، ولعل أساطير الوهم الثقافى لا تنحصر فقط فى اختزال النوع الثقافى الغربى فى اسم أو مجموعة أسماء لكنها أيضا تتبدى بقوة فى ترسيخ أحكام ليست صحيحة وفردية بشكل كبير هذه الأحكام ظلت فى مجتمعنا عقودًا وحتى الآن تؤثر على معظم المقولات وردود الأفعال والأنشطة الثقافية، فنحن لازلنا نرى «جان بول سارتر» فيلسوف وهو بالطبع ليس فيلسوفا منذورا للفلسفة بالشكل المعروف وليس كـ«مارتن هايدجر أو بيكون أو برتراند رسل» لكنه فى الحقيقة روائى وأديب لخص بعض فلسفات عصره وخصوصا الوجودية التى تأثر بها هو وأبناء جيله فى أوروبا كلها لخصها وعبر عنها فى رواياته ومسرحياته مثل موتى بلا قبور ومثل سن الرشد وغيرها من أعماله، وليس «سارتر» بالطبع هو موضوعنا لكنه مجرد مثال على التوحد الثقافى لدينا، وكما مع «سارتر» فإن هناك الكثير من أوهام التنظير الثقافى التى أطلقت بالخطأ من قبل الجيل الأوسط والذى نقصد به الجيل التالى بعد رواد التنوير، والمشكلة هنا أن الأجيال التالية عاملت هذه المقولات على أنها مسلمات دون نقد وبحث كافى فحرمت نفسها من الاطلاع على منابع عظيمه فى الثقافة الغربية بل وتطورت هذه الأحكام فأنتجت خرافات شديدة الخطورة كأن تجد مثلا أن العديد من مثقفى عصرنا يعتبرون سارتر مبتدع الوجودية التى سبقته فى ألمانيا بعقدين على الأقل على يد فلاسفة عظماء درسوا الفلسفة وانقطعوا لها وكأن تجد مثلا أن معظم المثقفين العرب يتعاملون مع بيكاسو أنه أبو الحداثة فى الفن التشكيلى مع أنه نقديا يقف فى آخر عصر الحداثة بل وحتى التكعيبية التى تنسب له سبقه إليها فنان آخر والنتيجة أن مكتبتنا العربية فقيرة فى نقد الفن التشكيلى وأغلب من يتصدى للنقد التشكيلى هواه يعيدون كتابة ما كتب من قبل بشكل آخر لينسبوا لأنفسهم ما ليس لهم مع أن ما كتب من قبل فى الأساس معظمه رؤى ذاتية دون رؤية نقدية حقيقية قائمة على ثقافة نقدية نوعية ودراسة أكاديمية والنتيجة بالطبع أننا لا نعتقد أن الوطن العربى على اتساعه يحتوى على حركة جادة فى النقد التشكيلي.
ولا نستطيع أن نتخيل أساطير الوهم الثقافى فى وطننا العربى دون أن نثير قضية المعميات التى أطلقها المثقفين والمبدعين أيضا فى انتحالهم أحيانا صفة الناقد بشكل أو بآخر وتلقين المتلقى قيما هم الذين ابتدعوها ومعظمها بالطبع بعيده عن الواقع بشكل كبير لأنها قائمة على فكرة رومانسية وهى فكرة أن الشاعر ناقد بطبعة للشعر أو أن المثقف لديه الحس النقدى فى معظم الأحوال وهذا بالطبع غير صحيح لأن الشاعر مثلا تسكنه فى أحيان كثيرة فكرة الحب والتقديس لمثال ما من شعراء سبقوه أو فكرة الغيرة فى اللاوعى من شعراء قبله أو معاصرين له ومن ثم تكون أحكامة غير منصفة وربما رومانسية كذلك المثقف الذى يعلى من قدر أحد المفكرين الذى يعتبره هو مثالا ومن ثم نجده يظهره لنا فى صورة مقدسة حتى يقنعنا أنه أحد معجزات الأرض الفكرية، والأمثلة لدينا كثيرا وبالنسبة للشعراء الذين تجاسروا على ممارسة النقد مثلا كان الشاعر صلاح عبد الصبور والذى نصب نفسه متحدثا رسميا عن الشاعر الإنجليزى «ت س إليوت» فى الوطن العربى ومن ثم ترجم وعرض ونظر حول شعرة وخرج لنا بنظرية للأسف من بنات أفكاره ولا محل لها من الصحة وهى أن «ت س إليوت» هو أبو الحداثة فى الشعر الإنجليزى وهذا بالطبع خطأ بنسبة كبيرة وما علينا من فهمنا الخاطئ لجدول الحداثة زمنيا كمفكرين ومثقفين عرب إلا أنه وضع «اليوت» كمبتدع للحداثة وضعا عارى تماما من الحقيقة وأن كان أستاذه «إزرا باوند» أحق منه بهذا اللقب إلا أن الحداثة سابقة على كليهما والحقيقة أننا لا نرى – وهذا رأى معظم النقاد فى الغرب -فى شعر «إليوت» غير مجرد مناظرة ثقافية واستعراض لمعميات ضخمة وكلاسيكية وعلى الرغم من وجود متعة شعرية عند «إليوت» فأننا نجد أنه من الصعب على العامة أو حتى أنصاف المثقفين استساغة شعره والذى يقتبس فيه أحيانا شلوًا كبيرا من الشعر الكلاسيكى اللاتينى مثلا أو يشير إلى حدث كلاسيكى أو رمز حتى فى الشعر الإنجليزى القديم فيصيب نصه الأعجام والارتكاب فى نظر القارئ العادي، ويكفى أن نقول إن بعض قصائده تحتاج لهوامش عشرات الصفحات حتى تستطيع تغطية المضمون وكأنك تقرأ أوفيديوس أو فيرجيليوس مثلا، فما بالك بوضعه على عرش حداثة الشعر الإنجليزى مع أنه فى الحقيقة شاعرا متقعرا وهو ناقد أعظم منه شاعر بكثير، لكن صلاح عبد الصبور، اتخذ القرار ونصبه أميرا لشعر الحداثة ومع الأسف فإن مثقفى الوطن العربى مالو إلى رأى عبد الصبور بل وجعل الكثير منهم المسألة مسلمة وبديهية والحقيقة أننا أمام ناقد انتحل الشعر – اليوت – وشاعر انتحل النقد – عبد الصبور.
أيضا المثقفين الذين حاولوا بدون دراسة وافية إلى الخلفيات الحقيقية للنقد ولمن ينقدونه حاولوا فرض نظريات بعيدة تماما عن الحقيقة فجعلوا من عباس العقاد هو هيجل الوطن العربى مع أنه أبعد ما يكون عن ذلك لمجرد أنه عرض لبعض أفكار هيجل وهو ذلك الأديب والمثقف الغير أكاديمى والدارس ذاتيا – وهذا لا يقلل من شأنه – لكننا مثلا نترك الدكتور عبد الرحمن بدوى صاحب العبقرية والإعجاز فى تحليل وطرح الفكر الغربى وننظر للعقاد على أنه هيجل؟ ونحن هنا لسنا فى تقليل من شأن العقاد لكننا بصدد تصحيح وإعطاء أمثلة لأساطير التلقى الثقافى فى الوطن العربى ولا بد أيضا حتى تتضح لنا الصورة أن ننتصر للاتجاه الأكاديمى الذى أغفلنا حق جميعا فى معرض تقديسنا لمفكرين كانوا بعيدين كل البعد عن العرف الأكاديمى ولو بشكل إطار يصلح ما تفسده الأهواء وتعتبر مشكلة تجاهل الأكاديميين هى أحد عقد التلقى الثقافى عند العرب وهى فى الحقيقة ذات شقين شق يقع على عاتق الأكاديمى نفسه – ونقصد هنا الأكاديمى الغير موهوب – وهو أن الكثير من الأكاديميين لا يستطيعون الخروج عن الملعب الأكاديمى وتقديم الاكتشاف النظرى الأكاديمى فى صورة أدبية مقروءة، تستوعبها مستويات عديدة من القراء وهذا طبعا قصور فى الأكاديمى ذاته وليس فى الفكر الأكاديمي، والشق الثانى هو حالة الرهاب الدائم لدى القارئ من كل ما هو أكاديمى أو داخل إطار منهجى والسبب فى ذلك يعود للنصف الثانى من القرن العشرين حينما بدأت العملية التعليمية فى التراجع بشكل ملحوظ حتى وصلت فى الثمانينات لصورة كارثية وتربت عقدة لدى المتلقى فى اللاوعى مفادها أن كل ما هو أكاديمى فهو سخيف وجاف، وهكذا مات أهم جانب فى تربية حس نقدى وثقافة منظمه عند القارئ ومن ثم أصبح الكل يتخبط فى عوالم من اختراع كتاب غير مؤهلين.
أن الأزمة الثقافية فى الوطن العربى تزداد أتساعا وعمقا وخصوصا بعد أنتشار وسائل التواصل الاجتماعي، والتى أصبحت تردد وترسخ لمقولات وأساطير الوهم الثقافى ذلك الوهم الذى كان متاحا للقارئ فقط لكنه الآن أصبح مفروضا على الجميع لذلك فإن هناك جيل تكون بالفعل من الواقعى أن نطلق عليه – جيل المخربين The Vandals - وهم مجموعة من الجهلة وغير المؤهلين أتيحت لهم منابر الوصول للقارئ ولشريحة عظمى من الشباب وسوف تكون هذه هى المرحلة اللاحقة من التفكيك للوعى الثقافى لدى مجتمعنا العربى إذا لم نقف ونتصدى لأساطير الوهم الثقافى ونصحح الفكرة لدى المتلقى ونواجه جيل المخربين سوف ندخل الكهف من جديد وهو بالطبع نهاية للعقل الجمعى الثقافى فى مجتمعنا العربى.