السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
عزة رشاد و«حائط غاندى»

عزة رشاد و«حائط غاندى»






تبدأ القاصة عزة رشاد من رمزية الاستدعاء المجازى لغاندى فى مجموعتها القصصية «حائط غاندي»، والصادرة فى القاهرة عن ( كيان) للنشر، ومن زخم الإحالات التى يصنعها الاسم والمعنى «غاندي»، هذا الذى تتمنى بطلة قصتها «حائط غاندي» أن تحوز قلبه، مثلما طمحت إلى أن تحوز جسد «كلوديا كاردينالي»، وعقل «أينشتين»، غير أن التحولات العاصفة بحياتها تجهض أمانيها، فلم يبق لها سوى قلب غاندي، فالقلب وحده خاضع كلية لها، وليس مرتبطا بعوامل خارجية حاكمة، كالزواج والحمل فى حالة الجسد، والسياق الأكاديمى والمعرفى الآسن فى حال العقل المشغول بطموح أينشتين ( رسبت ست مرات فى امتحان الدكتوراه)، والحقيبة التى تضيع من البطلة المركزية فى القصة لم تجعلها تتخلى عن الولد الملقى فى دمائه، والذى يسحب حقيبتها ويجرى فتصدمه السيارة المسرعة، غير أن البطلة التى تشعر بحال من الإخفاق العام، تنقله إلى المستشفى متذكرة ذلك الخيط الباقى من أمانيها القديمة، والذى لم تفقده بعد (قلب غاندي) المحب للخير والحق والجمال.
تتواتر رمزية غاندى التى تبدأ من عنوان المجموعة وتستمر فى نصوصها المختلفة، بدءًا من القصة الأولى «رسائل بظهر الغيب»، التى تعد من أكثر قصص المجموعة تجريبًا، واستخدامًا تقنيًا بارعًا، حيث تعتمد القصة على آلية التقطيع السينمائى المتوازي، فتنتخب الكاتبة لحظات متعددة من حيوات شخوصها الموزعين فى مساحة كمية لا تتجاوز أربع صفحات، لكنك ستجد زخمًا هائلًا فى الأحداث والشخوص، فتبدو أقرب لضربات الفرشاة الدالة التى تعرف الكاتبة أين وكيف تضعها، بدءًا من استدعاء يحيى حقي، وبطله الإشكالى «البوسطجي»، ومرورًا بالفتاة العشرينية بحقيبتها التى تحوى جيبًا سريًا تضع فيه شريطًا لحبوب منع الحمل، ومخلاة غاندى الذى طحنه الفشل الكلوي( الإشارة هنا مهمة  للخروج من الأفق المثالى عن الصورة الذهنية لغاندي)، المخلاة التى تماثل «البقجة الدمور» للمرأة الأربعينية التى تسير بابنتها فى غبشة الفجر وسط الحقول، وربما يرتبط مشهد الخروج من المكان بحكايات الشرف والعار فى الريف المصري،  لكنه هنا يبدو مشهدًا لاستئناف الحياة، فالبنت تذهب إلى مدرستها، والأم تجلس بالبقجة الدمور أمام مدرسة ابنتها التى تخرج لتجد أمها تمد يدها مصحوبة بعبارة: منديل يا حاجة/ منديل يا حاج، قفزًا إلى حقيبة « يوهان جوتة» المليئة بالخطابات الغرامية، التى لم تعد تناسب زمنًا مسكونًا بالكراهية، يستدعى نيرون مثلما يقول الشاب ذو النظارة الطبية السميكة، والحبيبة الضائعة، ثم الشيخ الذى يصرخ (حرام تكسر الورد)، وحفيده (عفريت يا جدو عفريت)، لتبدأ بعدها لملمة الحكايات المختلفة، ثم تكثيفها الشديد فى المختتم البارع للقصة، حيث القنبلة التى تكسر الورد، وتغتال الكل، الحفيد والشيخ، والشاب الحالم والخطيبة الضائعة، والبنت التائهة المحتفظة بشريط وحيد لمنع الحمل. ويتواتر حضور القنبلة ولكن بصيغة أخرى فى قصة «رسالة علياء» التى تسأل فيها  القاصة عزة رشاد فتاوى الدم ووكلاء التطرف من محتكرى الحقيقة المطلقة.
يكشف العنوان فى «عراء» عن المناخ العام الذى يحيط بالمروى عنه المركزى فى القصة، حيث الفتاة الحائرة بين أب وأم على شفا الانفصال، ومن ثم ستجد نفسها فى العراء الذى كانته بالفعل، ويلعب الحكى بضمير المخاطب دورًا أساسيًا فى بث مشاعر الاغتراب التى تعيشها البنت المأزومة، والواعية بمأساتها، ونهاية القصة مصنوعة بفنية حقيقية صادمة لمتلقيها، تمنحه قدرًا من المسكوت عنه، والمختبئ داخل السرد حتى لحظة الكشف والإعلان.
بنعومة شديدة تتسرب إلى القارئ المأساة فى «قبعة وبدائل أخرى»، مأساة الذات المحكى عنها، التى لا تثير التعاطف أكثر من إثارة التأمل، فالقبعة التى صارت ملازمة للمرأة جراء المرض ربما تعينها على التخفى من المخبر الذى سيرتبك حتما حينما يراها فى التظاهرة وهى تلبس القبعة بدلًا من الشعر السارح الذى أتحفنا العندليب عبدالحليم حافظ بمغازلته، كما تحكى القصة، غير أن حالة التوحد بين البطلة وأشيائها تتكشف أكثر حين تشاهد من شاشة العرض الكبيرة بالمستشفى سير التظاهرة، لتبدو القصة هنا ناعمة وإنسانية رغم إحالتها إلى خشونة الحياة وعنفها الضاري.
تستحضر قصة «غبار» شجرة الدار/ السلطانة المغدور بها والتى تظهر فى شارع صلاح سالم، وتجلس على مقهى فى الحسين، ويدور حوار سردى دال، قائم على التخييل ويعد جزءًا من بناء القصة بين السارد/ البطل الذى يحكى بضمير المتكلم وشجرة الدار، فى استدعاء دال للحكاية الشعبية ابنة القص الشفاهى حيث تغليب المعجزات وظهور الكرامات كالإحالة إلى  السيدة مريم العذراء فى نهاية النص.
فى «لوحة» تقرأ الكاتبة لوحة العشاء الأخير للفنان العالمى ليوناردو دافنشي، هذه اللوحة المبهرة التى غايرت التقاليد الراسخة، فليس ثمة شيء ثابت فى عالم معقد ومتغير باستمرار.
تأخذ اللغة مستويات عدة فى قصة «هذا البِرام الفخارى القديم بالذات»، فتبدو ابنة المكان الريفى والبيئة المحلية، كما تتعدد تجليات اللغة التى تغادر المستوى الكلاسى السامق فى معظم القصص، لتصبح هنا ابنة الشفاهية، معبرة عن وعى قائلها بالأساس وطبيعة الموضوعة المطروحة أيضا، والخالة هنا نموذج إنسانى متواتر لأهلنا من العجائز فى الريف، الذى تحضر عوالمه أيضًا فى قصة «السِّن الذهبية»، والتى يعد ضياعها مثلما ضاعت فى القصة كارثة، ولقياها أملًا.
تبدو الثورة طيفًا بعيدًا داخل المجموعة يحضر فى نصوص مختلفة، من بينها  «سويتر جلد بني»، التى تعتمد على تقنية الفلاش باك فى بنائها القصصي، وفى «خوذة روميل» ثمة استعادة لأجواء الحرب العالمية الثانية من الإحالة التى يصنعها العنوان والقفز إلى تفاصيل راهنة تخص حيوات الشخوص، وفى « تلصص على أنقاض» يشيخ كل شيء، مثلما يبدو العالم جميعه فى «حائط غاندي» مقبلا على الكارثة، مشارفا للجحيم، فقط ترصعه بعض الحكايات النبيلة عن الحائط الذى لم تزل تعلق عليه صورة غاندي، لكنه يبدو مهملًا أيضًا، وآثار انطفاء بادية عليه حين خلا من صورة كلوديا كاردينالى وأينشتين، وهذه الوحدات الثلاث التى تشير إلى عطب فى المناخ والعقل العام، لم تخلُ من إمكانية للحياة فى عالم موحش وقاس، تؤنسه الحكايا، تلك التى نسجتها عزة رشاد ببراعة فائقة وبوعى بصيغ السرد المختلفة، مع تنويع فى الحكي، وولع بتقديم زوايا نظر جديدة للعالم، والواقع والأشياء.