الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«جوان إيردلى».. بين براءة البؤس وأمواج البحر

«جوان إيردلى».. بين براءة البؤس وأمواج البحر






على ما يبدو أن البؤس الذى عانته القرى الإنجليزية والساحل الاسكتلندى وبعض أجزاء أيرلندا قد أجج قرائح الفنانين فى كل المجالات فنجد هذا البؤس الذى دفع روائيا كبيرا مثل فرانك ماكورت أن يكتب رائعته – رماد أنجيلا – والتى حاز بها جائزة بولتيزار كما دفع الفنان التشكيلى الكبير ماكنزى ثورب أن يتقصر كل فنه على أطفال العمال فى القرى الإنجليزية الصغيرة وأطفال الشوارع وهذا بالتحديد ما فعلته من قبله بخمسين عاما فنانه عبقرية والتى يطلق عليها معظم النقاد سيدة الرسم الاسكتلندى وهى فنانتنا اليوم الفنانة التشكيلية الكبيرة جوان ايردلى والتى والحق يقال لم تأخذ حقها من الشهرة والمجد ما أخذه من هم أقل منها فى الحرفة وفلسفة الرؤية، لكن على أية حال فإن المتاحف الكبيرة فى العالم الآن تتسابق بشكل واضح على اقتناء أعمالها بحيث دخل متحف جوجينهايم للفن الحديث فى نيويورك فى مفاوضات مع عدة مصادر لاقتناء مجموعة من أعمالها ولقد بدا قبلة متحف الفن الوطنى باسكتلندا فى اقتناء أعمال كثيرة لها وهو الذى يمتلك تقريبا 60 بالمائة من أعمالها بل وكل المعارض الاستيعادية التى تتناول أعمالها تتم عن طريقة، من هنا أعلنت أيضا ثوسبى للفنون عن امتلاكها لبعض أعمالها وتؤكد ان أعمال جوان ايردلى قد تضاعفت قيمتها منذ 2008 بعد ان بيعت لوحتها الشهيرة شحاذون فى ساحة سان مارك والتى رسمتها أثناء زيارتها لفينيسيا عام 1949 بمبلغ 180 ألف جنيه استرلينى.
تعتبر جوان ايردلى من أهم علامات الفن فى القرن العشرين وخصوصا فى المدرسة الاسكتلندية والتى كانت توصف دائما أنها فى عباءة الفن الإنجليزى لكن ايردلى من الفنانين الذين أعطوا خصوصية ونكهة خاصة لمدرسة الفن الاسكتلندى التى توصف بأنها ركزت على الجانب الإنسانى بشكل كبير ونهل من هذه المدرسة فيما بعد فنانين عظماء سواء من انجلترا أو من خارجها.
إن معظم موضوعات ايردلى هى وجوه أطفال الشوارع الفقراء والشحاذين والأطفال الفقراء المنهكين بعد فترات لعبهم فى الشوارع لذا فأن معظم تقنيات التناول فى أعمال ايردلى تنصب على تطوير الوجه أو البورتريه عامة وهناك نوعان من البورتريه عند جوان ايردلى أولهما هو البورتريه السميك اى المستخدم فيه ألوان زيتية أو أكريليك وتتبنى فيه ايردلى تقنية اتجاهات الريشة مع الألوان السميكة من خلال فلسفة لونية تستخدم فيها الألوان القاتمة والتى تتماشى مع تعبيرات الوجه الطفولى الذى ينضح بالحاجة والفقر وربما الحزن أيضا حتى الألوان الفاتحة فهى باردة وثقيلة كما أن هناك تشريحا دراميا تستخدمه دائما ايردلى فى تصوير وجوه أطفال البورتريهات السميكة حيث العين ساهمة حزينة وفى وضع نظر لشىء غير موجود ودائما ذات نظرة متجهة لأسفل كذلك الوجه ليس به أى نوع من أنواع الابتسامة أى فى حالة تراجيدية وهذا بالتحديد إحدى نقاط تميز ايردلى ويحسب لها لا عليها، النوع الثانى من البورتريه وهو فى الغالب إما لأكثر من شخص أو حركى أى فيها موضوع حركى ولو بشكل بسيط هذا النوع هو الذى نستطيع تسميته بالبورتريه الخفيف أو الأقل سمكا فالألوان المستخدمة فيه اقل خفة مثل الباستيل والمائيات وغيرها من الألوان ونلاحظ أيضا أن الألوان نفسها لم تستخدم بكثافة كبيرة لملء الفراغات كما فى النوع الأول من البورتريه أى السميك والذى تتزاحم فيه الألوان فى سطوع واضح لحركات الفرشاة، وألوان النوع الثانى أقل قتامة من النوع الأول وبها بعض البهجة فمعظمها فواتح مشتقات الأحمر والأصفر والأزرق الفاتح وفيها حركة وبعض النشاط فنجد مثلا طفلة تحمل شقيقها الأصغر النائم أو طفل نائم وبخصوص موديل الطفل النائم نجد تأثر جوان ايردلى بوضعية الطفل النائم عند الفنان النمساوى فريدريك أميرلينج والتى تكررت كثيرا فى أعمالها التى تتناول نفس الموضوع والنوعية الثانية من بورتريهات ايردلى هى تلك النوعية التى توحى بأن ايردلى استعارت بساطة الأطفال الصغار فى الرسم حيث هم الموضوع الأساسى لهذه النوعية من بورتريهات ايرديلى .
والحقيقة أننا نرى أن فنانة مثل جوان ايردلى لم تأخذ من الشهرة حقها على الرغم من أن الكثيرين والأقل منها موهبة كانوا قد وضعهم الأعلام والبروباجندا فى طليعة فنانى القرن العشرين ومنهم على سبيل المثال لا الحصر لوسيان فرويد الذى والحق يقال كان قد نقل كل تقنيات المدرسة الروسية ومدرسة البلقان المجهولة لدى أوروبا نقلها لانجلترا فلاقى إطراء كبير فى غير محلة فنحن نرى أن فرويد لا يزيد كثيرا عما نقل عنهم وتأثر بهم دون أن تدفعه الأمانة لذكر ذلك فالمقارنة بينه وبين ناثان ألتمان مثلا ترجح احتيال فرويد على تقنيات مجهولون مثل ألتمان ومن ثم يظل الوجه الطفولى المطل ببراءته من بؤس الشارع هو الأكثر قوة من وجه فرويد اللامعة لكن الحق يقال أن النقاد الانجليز كانوا ولا زلوا يضمرون بعض العنصرية فى اللاوعى للفنانين الأيرلنديين والاسكتلنديين ويفضلون عليهم الفنانين الانجليز.
ولدت جوان ايردلى لأب انجليزى وأم اسكتلندية فى عام 1921 فى ورهام سوسيكس بانجلترا وتبدأ أول قصص الدراما فى حياتها حينما كانت صغيرة لم تتعد الأربع سنوات فكان والدها مصابا بالجنون نتيجة لتعرضه للغاز فى الحرب العالمية الأولى ولم يكن يتفاعل مع أبنتيه اى جوان وأختها باتريشا حتى أنهى حياته بيده حينما كانت جوان فى سن التاسعة فرحلت والدتها بهم غلى بلاكهيث بلندن وتولت خالتهم الإنفاق على تعليمهم وبعد اكتشاف موهبة جوان الفنية التحقت بكلية جولدسميث لمدة موسم واحد ثم عادت الم بهم إلى جلاسجو وفى عام 1940 التحقت بكلية جلاسجو للفنون ودرست على يد هيو ادم كروافورد وتأثرت بالمدرسة الاسكتلندية وحصلت على الدبلوما عام 1943 كما حصلت على جائزة سير جيمس جوثرى وعملت بالتدريس فترة قصيرة ثم أكملت دراستها فى هوسبيتالفيلد هاوس ومن ثم رحلت فى منحة لمدة عام لإيطاليا وفرنسا حيث عاينت على الطبيعة أعمال عظماء الرينيسانس وتأثرت كثيرا بمزاتشيو وبيرو ديلا فرانشيسكا وبعد أن عادت من رحلتها استأجرت استوديو صغير فى جلاسجو وبدأت برسم مجموعتها الشهيرة عن أطفال الشوارع والفقراء وفى بدايات 1950 دعتها أحدى صديقاتها إلى قرية كاترلين وأعجبت بها أيما إعجاب فكانت تقضى معظم أوقات العام بكوخ بدائى بها وتتنقل حول القرية لرسم المناظر الخارجية لوحاتها الشهيرة عن البحر فى كل أحواله وفى كل الفصول، ذاع صيت جوان ايردلى وأسست جماعة كاترلين او مدرسة كاترلين والتى ضمت فنانين كبار مثل أجنس نيل و ليل نلسون وانتخبت عضوة بأكاديمية الفن الاسكتلندية بالإجماع ثم رحلت لفينيسيا فى أجازة نقاهة من مرض النكاف وهناك أنجزت عملها الشهير عن شاحذين فينسيا.
أصيبت ايردلى بسرطان الثدى ورفضت أن تأخذ العلاج الذى كان صعبا فى ذاك الوقت ووصل المرض للمخ وماتت عام 1963 عن عمر 42 عاما وحرقت ووضع رمادها فى مياه كاترلين كما أوصت.