الجمعة 13 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
جون بيرو  وسحر «البيللى بوك»

جون بيرو وسحر «البيللى بوك»






فناننا الكبير الذى نقدمة للقارئ اليوم هو جون بيرو والذى يمكن أن نطلق عليه الباريسى المثالى ونقصد هنا بكلمة مثالى أنه كانت تنطبق عليه كل سمات الباريسيين فى أعمالهم التى خرجت للشارع ووثقت دون تمييز للحياة الباريسية فى فترات عديدة كانت أخصبها تلك الفترة التى عاشها جون بيرو ويمكن أن نطلق عليها فترة التألق فى عمر مدينة مثل باريس وهذه الفترة المتألقة يسميها المؤرخون الأوربيون – بيللى بوك ‪Belle Époque‬ – وهى دون مبالغة أخصب فترات باريس كعاصمة للفن والموضة والجمال فكانت هذه الفترة تعتبر باريس الدرة الوضاحة التى تتزين بها أوروبا بل والعالم أجمع وهذه الفترة يحددها المؤرخون بالفترة ما بين انتهاء الحرب الفرنسية البروسية وبين اندلاع الحرب العالمية الأولى أى من 1871 وحتى 1914 وهنا كان يكمن الحلم الباريسى والجمال الغامض الذى يحوط هذه الفترة بشكل خاص لأنه ودون مبالغة كانت باريس فى هذه الفترة مهد الحضارة الأوروبية الحديثة والمعاصرة ونقطة التحول التى كان المودرنيزم فيها هو الزائر الوليد لعالم الفن عامة والفن التشكيلى خاصة.
لم يكن جون بيرو مثله مثل معاصريه الذين ساروا بقوة فى الانطباعية لكنه وعلى الرغم من أن البعض يحسبه بشكل أو بآخر كفنان انطباعى من زاوية ما إلا أنه لم يكن كذلك بالمرة ونحن لا نستطيع أن نصنفه رغمًا عنه فى مدرسة ما لكنه من الواقعيين الذين أحبوا تصوير المشهد الباريسى الذى وصل لأوج مجده وعظمته فى فترة ازدهار فن جون بيرو وكان مثل هذه الكوكبة من الباريسيين أمثال لوتريك وستانلين ومونيه وغيرهم الذين وجدوا فى المشهد الباريسى ومشاهد الحياة اليومية للطبقة المتوسطة الغنية متنفسًا لفنهم وجذبهم هذا الجمال الذى كان يجلل هذه الفترة ، فنجد أن عيون بيرو وأقرانه تفتحت على الأماكن التى كانت تغص بالكثير من أهل باريس كالمقاهى والمسارح ودور الفن والميادين الشهيرة فنجدها تظهر صراحة فى أعمال بيرو متمثلة فى كافى دو بارى وقهوة الأدباء وصالة جافارد وحتى دور العبادة مثل ميدالين وسانت ترينتى وأماكن تجمعات الطبقة المتوسطة الميسورة بشكل أو بآخر ومن ثم كان بيرو يبتعد عن المثالية واستبطان ذاته فى التصوير بل كان واقعيًا مدربًا لأبعد الحدود وحتى لا نخلط بين أعمال جان بيرو وبين أعمال المدرسة الواقعية علينا أن نقول أن المقصود بواقعية بيرو هى واقعية خاصة تتمثل فى أمانة نقل المشهد مع الوصول به لمرحلة قياسية تجعلنا نشعر أن هناك قصة ما وراء المشهد المصور ويتضح ذلك بقوة فى لوحته الشهيرة - فى طريق العودة من الجنازة – والتى كانت العمل الذى قربه للجماهير وعرف المتذوقون به وعلى رغم من البعض قد يرى اللوحة بسيطة من حيث الفكرة إلا أنها عميقة جدًا فى مضامينها وتقنياتها كلما تأملناها بشكل نقدى وعدم فصلها عن الإطار التاريخى الاجتماعى لفترتها .
وعلى الرغم من أن لوحة العودة من الجنازة بها الكثير من تقنيات الانطباعية لذا فإنها أحد الأعمال التى يتكئ عليها بعض النقاد لأن يضموا بيرو لزمرة الانطباعيين لكن فى الحقيقة على الرغم من وجود هذه التقنيات تظل اللوحة أحد أهم أعمال الباريسيين الواقعية أو بمعنى أدق الأوربان باريس أولًا لأنها تصور مشهدًا من مشاهد الحياة اليومية وثانيًا لأنها بها نسبة ولو بسيطة من السرد أو الحكى فى أسلوب العرض سواء لشخصيات اللوحة من حيث أماكنهم فى اللوحة أو من حيث وضعاتهم التعبيرية أو من خلال المضمون الرمزى وراء المشهد التصويرى والذى يحاول أن يخبرنا به بيرو أن الحياة تعود كما هى بعد دفن أحد الأشخاص ولا تتوقف فهؤلاء العائدون من الجنازة يمارسون حياتهم بشكل طبيعى وإن كانوا لا يزالون يسيرون فى شكل حزين كجماعة لكن البعض منهم قد بدا بالفعل بالانفصال عن المجموعة ليذهب لشأنه أو يشعل سيجارة وهكذا مع التركيز على أزياء الحداد الباريسية وأجواء الشتاء.
هناك سر ما فى بعض أعمال جون بيرو ففى عمل من أعمالة بالتحديد نقف أمام لغز محير نشعر فيه أن بيرو كان سابقًا لعصره بأكثر من 100 عام وهذا العمل بالتحديد هو لوحة المجدلية فى بيت الفريسين وهذا العمل غاية فى الغرابة فهو يمثل فتاة ساجدة تتوسل بين مجموعة من الرجال العجائز فى حجرة طعام وفى الثلث الأيمن من اللوحة يقف بينهم يسوع فى هيئته الدينية المعهودة واللوحة تمثل المدرسة الواقعية فى تقنياتها وشخوصها لكن هذا الكسر الدرامى بوضع شخصية يسوع داخل المشهد وكـأنه يحكم بين العجائز غريب، وعلى الرغم من أن الكثير من النقاد جعل اللوحة من قبيل الفن الرمزى التهكمى إلا أننا نرفض ذلك ونرجح أن بيرو قصد بها الكسر الدرامى والإسقاط داخل اللوحة من حيث استدعاء الحكاية الدينية فى شكل عصرى وإسقاط فكرة القهر والتعسف على عصره ومن ثم يصبح جون بيرو هو أول من ابتدع أسلوب الكسر الدرامى فى أعماله ويصبح السلف الحقيقى لمدرسة اللوبرو الحديثة مع الاختلاف لأن هدف جون بيرو هنا كان الأسقاط واستدعاء الرمز بينما هدف مدرسة اللوبرو فى أعمالهم هو تشويه الأعمال الكلاسيكية وتفكيكها مثل لوحة الأنزال لألكس جروس أحد أقطاب اللوبرو المعاصرين، وربما حاول بيرو فى لوحة المجدلية فى منزل الفريسين أن يجعل يسوع شخصية غير مرئية وهو سبب سجود الفتاه فى خشوع.
تتفجر الحياة البريسية ببهجتها فى أعمال جون بيرو بشكل خلاق ورائع مما يجعله أعماله ثالث أهم موزع فى الكارت بوستال الباريسى وعالم التذكارات الباريسية بعد فوتوغرافيا روبير دوانو ورسومات ستانلين الأعلانية ثم بوسترات ألفونسو موكا ، والسبب فى ذلك هو حضور المكان بشكل قوى فى أعمال جون بيرو ونجد معظم لوحاته مرتبطة بمكان ما من تلك الأماكن التى تشتهر بها الحياة الباريسية مثل كفى دو بارى وسانت ميدالين وسانت ترينتى والشانزليزية وغيرها من الأماكن التى تشكل روح العمل الفنى عند بيرو بجانب شخوصة الباريسيين قلبا وقالبا وهذا لا يجعلنا نعتبر بيرو يمثل قيما تجارية او يضعف من عمله الفنى كما اعتقد بعض النقاد بل لعلنا نرى أن هذا الإطار كان أحد أسباب تميزه كما كانت بيجال والمولان روج وغيرها من الأماكن أحد اسباب شهرة لوتريك وكما قلنا من البداية أن جون بيرو هو أحد هؤلاء الباريسيين العظماء الذين شكلت أعمالهم سجلًا حقيقيًا لحياة الأوربان فى باريس ومع ذلك تجاهل النقاد جون بيرو لفترات طويلة من وفاته وحتى ثمانينيات القرن العشرين بل واعتبره بعض مؤرخى الفن أنه يجسد الفكرة التجارية فى الفن التشكيلى وهذا ظلم بين لفنان كبير مثل جون بيرو.
ولد جون بيرو فى يناير عام 1848 فى سانبيتريسبورج بروسيا القيصيرية وكان والده فرنسيًا ذا أصول روسية يعمل فى رسم الكنائس وغيرها من الدور العام وكانت والدته فرنسية وبعد موت والده عادوا ليعيشوا فى باريس حيث التحق بمدرسة الحقوق لكنه هوى الرسم والتحق بفصول مسيو ليون بوننا ليتعلم الرسم وظل يعمل فى الظلال حتى أتيح له فرصة الانفتاح على الجماهير بعد عرض لوحته العودة من الجنازة فى صالون باريس عام 1876 ومن ثم اكتسب شهرة وتتابعت أعماله التى مثلت الاتجاه الواقعى الباريسى والحياة اليومية وعرض أعماله فى صالون جمعية الرسم المائى فى باريس عام 1889 ضمن معرض باريس العالمى.
حصل على وسام جوقة الشرف عام 1894 وتوفى فى صمت فى أكتوبر عام 1935 وتعرضت الكثير من أعماله للضياع والتشتت لكن تم جمع معظمها ولازالت أعمال جون بيرو تمثل أحد أهم إفرازات الحقبة الذهبية فى الفن بباريس.