الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
صناعة المدن بين الفن والعبث التاريخى

صناعة المدن بين الفن والعبث التاريخى






خاص لـ«روزاليوسف» من سكوبيه


أن تجمل المدينة وتدهن حوائطها ثم تضع فى كل ركن منها بعضا من التاريخ.. تمثال.. نصب تذكارى.. لوحة شرف.. قوس نصر.. هذا ما يعرف بتبويب التاريخ المكانى.. أى وضع علامات للتاريخ فى أماكنها الأصلية وكان فالتر بنجامين فى مقالاته النقدية التى كتبها عن مدن مثل باريس يؤكد دائما أن اللون هو ما يعطى للمدن نكهتها الخاصة.. وهذا يقترب كثيرا لما نتحدث عنه كطرح مغايرً لما عرفناه عن التاريخ ، وبمعنى أدق الوقاعة المكانية للتاريخ ومدى تأثيرها فى تشكيل روح المدن وما دور الفن فى هذه القضية كذلك علينا أن نبحث مدى المشكلات والأزمات السياسية وصراعات الفكرية بين الكيانات الإقليمية والتى قد تنشأ على خلفية صدق رواية الحدث التاريخى من عدمه مما يؤدى لبعض الشوفينية والتمييز العرقى، الحقيقة أن هذا كله يعتبر أحد أهم قضايا التاريخ وتكون المجتمعات العمرانية سواء بمعناها الحديث أو القديم وهناك فى الحقيقة أمثلة كثيرة ومتعددة لكننا قد نجد أن المدن الناشئة أو بمعنى أدق المدن التى تعيد بناء ذاتها سياسيا وحضاريا و إقليما هى المثال الأكثر وضوحا على ما نقدمه من عرض لقضية تعتبر جزءا من صلب النقد التاريخى فى هذا الصدد.
علينا أن نبدأ بداية غريبة وطريفة فى نفس الوقت حتى نستطيع أن نأخذ القارئ للفكرة دون عنت التفكير فى النظريات، فأنت مثلا أذا كنت تصحب مرشدا سياحيا فى مدينة سكوبيه عاصمة مقدونيا فربما تتعجب حينما يقف بك أمام أكبر معالم المدينة تمثال عملاق من البرونز فوق عامود حجرى مزين بمشاهد لمعارك قديمة وأنت تعرف حتى وإن لم تكن زرت المدينة قبل ذلك أن هذا التمثال للقائد التاريخى الإسكندر المقدونى الملقب بالأكبر والذى يظهر بكل مميزاته وملامحه التى لا تخطأها العين لكن المرشد يفاجئك وبصيغة فيها الكثير من التهكم وربما بعض الحسرة أن هذا ليس تمثال الإسكندر بل هو تمثال المحارب فوق الحصان.. وإمعانا فى هذه الصيغة الساخرة تجده وعلى امتداد الجسر الذى يعبر نهر الفاردار الذى يشق مدينة سكوبيه يشير إلى عامود آخر فى ملابسه الهللينية المميزة ويقول لك إنه تمثال والد المحارب فوق الحصان.. فى محاولة ساخرة منه أيضا أن يلفت نظرك أنه فيليب المقدونى ملك مقدونيا القديمة ووالد الإسكندر الأكبر لكن دون أن يذكر ذلك فعليا.. ثم يبتسم ابتسامة أكثر سخرية حينما تسأله عن تمثال تلك السيدة الشامخة فى الزى الهللينى والتى لها عامود خاص عليه تمثالها وفى أسفل العامود مجموعة نحتية لها فى حالات متعددة وهى ترعى الطفل الصغير ويقول لك ساخرا – وهذه بالطبع إنجلينا جولى – فى إشارة منه إلى أنها الملكة أوليمبياس والدة الإسكندر وسيدة البلاط المقدونى وحيث جسدت شخصيتها فى الفيلم الشهير عن الإسكندر الممثلة الأمريكية الشهيرة إنجلينا جولى.. والحقيقة أن هذا ليس محض هراء او تندر من المرشد أو أهل مقدونيا المتعلمين لكنه مقصود تماما والسبب فى الحقيقة غريب لدرجة قد تبدو للقارئ دربا من الجنون والصبيانية فى القرن الواحد والعشرين حيث حذرت اليونان دولة مقدونيا مرارا وتكرارا أن تدعى نسب الإسكندر لها مع أن هذه حقيقة تاريخية واضحة وضوح الشمس بل قدمت مذكرات عدة بشكل رسمى للهيئات القضائية والدولية حتى تكف مقدونيا عن الظهور بمظهر أرض الإسكندر وتكف أيضا عن صناعة تماثيل له وحتى يبدو كرمز تذكارى للعاصمة الحالية ومن ثم حاول المقدونين الالتزام بشكل هزلى بهذه التوصيات التى هى جادة تمام الجدية من قبل دولة اليونان حيث تصف اليونان مقدونيا بأنها ليست مقدونيا الحقيقة بل أن مقدونيا الحقيقة هو ذلك الإقليم الذى يضم مجموعة من المقاطعات الصغيرة التى على رأسها ثيسالونيكى – سالونيك – والحقيقة أن كلام اليونان يدحض قضيتهم فلقد كانت مقدونيا الحديثة هى أيضا متاخمة وضمن هذه الأقاليم، والحقيقة أن المكتشفات الأثرية لا تعضد كلا الطرفين أى اليونان ومقدونيا الحديثة والسبب فى ذلك هو عدم اكتشاف أطلال مدينة بيللا عاصمة مقدونيا القديمة والتى كانت مقر البلاط المقدونى لكن أيضا مقدونيا الحديثة لديها الوجاهة فى طرحها التاريخى، وقد يكون سبب هذا الاحتقان التاريخى والعرقى هو أن اليونانيين وبعد مرور 2300 عام على رحيل الإسكندر لايزالون لا يتقبلون حقيقة أن هناك ملكا من إمارة ليست هللينية حقيقة ولكنها هللينية ثقافة وهو أيضا أقرب للشرق منه للغرب وهو أى فيليب الثانى وولده الإسكندر كانوا ملوكا لا يتبعون فكرة البوليس الديمقراطى أى المدينة الدولة مثل آثينا وجيرانها ومن ثم كانت صدمة أن يتحول هذا الملك الشرقى لغول يبتلع الدويلات اليونانية الواحدة تلو الأخرى ويتحكم فى مصائرها سياسيا ومن ثم تريد أن تبدو القصة أنه ملك يونانى سيطر على الدويلات اليونانية وليس ملكا مقدونيا احتل الدويلات اليونانية.. ولعل هذا يفسر كيف أن اليونانيين منذ العصور الوسطى بدأوا فى تحويل لقب الإسكندر من الإسكندر المقدونى إلى الإسكندر الأكبر حتى ينقطع كل نسب له بمقدونيا، وهذا ما لا تغفله مصادر كثيرة .
وبدون الدخول فى جدل من أكبر جدليات التاريخ حول نسب الإسكندر الملتبس وسيرته الغامضة علينا أن نؤكد أن التاريخ يتحكم فى كل أنواع الصراعات حتى ولو بشكل خفى دون أن ندرك ذلك وهذا ما يجعل أهل مقدونيا يتندرون على التماثيل بهذه الطريقة التى لا تخلو من مرارة، وفى مقابل ذلك نجد أن المدينة تحتفى كثيرا بنسبها العثمانى منذ العصور الوسطى والذى دام ما يقرب من خمسمائة عام وحتى دخولها فى زمرة الأقاليم اليوغوسلافية، ومع أن مقدونيا جاهدت كثيرا دون الذوبان فى الكيان العثمانى وكان فيها مناضلون كثيرون قوميون مثل بيتر كاربوش المناضل القومى فى القرن التاسع عشر ، لكن على الرغم من ذلك فإن المقدونيين يتباهون بالفترة العثمانية أيما تباهى وقد يكون أحد أسباب ذلك أيضا العداء التاريخى بين تركيا واليونان لكن يظل التباهى بهذا الكم الكبير من الآثار والمخلفات والعرقيات أحد محاور الرواية التاريخية والأدب الشعبى بل والتمييز التاريخى فى الضمير المقدونى وهذا ما يجعلك لا تستغرب هذا الكم الكبير من المساجد الذى يملأ الأقاليم المقدونية والجبال والوديان جنبا إلى جنب مع الكنائس البيزنطية بل يتبع نفس أسلوب العمارة البيزنطية التى أخذها العثمانيون بحذافيرها من البيزنطين وأحلوها طرازا رسميا لمساجدهم ودورهم العامة، وحتى فى الأقاليم التى لا تجد فيها كثافة للسكان المسلمين الذين يشكلون 23% من سكان مقدونيا تجد أهتماما كبيرا بالمساجد القديمة مثل هذين المسجدين الكبيرين فى إقليم بيتولا والتى تعتبر أحد أكبر حواضر مقدونيا على الرغم من أنها لا يوجد فيها جالية مسلمة وحتى أنهم يتباهون بأن صاحب ثورة الحداثة فى تاريخ تركيا مصطفى كمال أتاتورك قد درس فى مدرستها العسكرية ووقع فى حب أحد بناتها بل تجد العديد من آثاره فى المتحف الحربى فى بيتولا .
وهكذا تجد تناقض التاريخ حيث تسقط مقدونيا بمرارة سيرة الإسكندر فى محاولة لعدم إثارة غضب اليونان وتحتفى بحقبتها العثمانية والإسلامية أيضا على الرغم من أنها دولة مسيحية غالبية سكانها من الأرثوذوكس، ويتملكك العجب فى هذا الشغف الذى يشرق بنور سحرى فوق وجه المرشد السياحى حينما يقول لك الجملة الشهيرة التى قالها داوود باشا لابنة السلطان أو حاكم مقدونيا فى القرن السادس عشر حينما قال لها – سوف أجعل النجوم تسطع فوق جلدك وتتناسى القمر – ولعل القارئ سوف يجدها محض غزل مبالغ فيه لكنها كانت رغبة حققها داوود باشا صاحب أشهر حمام فى السوق القديم بسكوبيه وكان قد وقع فى عشق ابنة حاكم مقدونيا العثمانى وكان داوود باشا من أغنياء مقدونيا وحتى يغزو قلب ابنة الحاكم قال لها هذه الجملة وبنى حماما فى السوق الكبيرة وحينما اكتمل دعا إليه ابنة السلطان بعد غروب الشمس لتستحم هى وجواريها وكان قد جهز قباب الحمام بكوات أو فتحات على شكل نجوم ولما أكملت طقوس الحمام كان ضوء القمر المكتمل قد سطع من خارج القباب ودخل عبر الفتحات النجمية فرسمت فوق جسد أبنة السلطان نجوما كثيرة وهكذا وفى داوود باشا بوعده ووقعت فى حبة الفتاة وتزوجها بل منحه والدها ولاية أكبر أقاليم مقدونيا فازداد ثراء .
هنا تظهر بينية التاريخ فبينما فى احتفاء المقدونيين بالحقبة العثمانية ومراوغتهم للتعسف اليونانى فى سرد التاريخ وتثبت هنا نظرية أن الصراعات كلها فى عالمنا أساسها نظريات تاريخية وفى باطنها تظهر العرقية والتحزب الدينى وكل آليات الصراع بين القوميات بعضها البعض ولكننا أحيانا نجد أنها معظمها نظريات عبثية كتلك الصراعات بين العرب واليهود التى تبدو فى ظاهرها دينية لكنها فى حقيقتها صراعات الصدارة السياسية بين السامية واللاسامية رغم عدم ثبوت اختلاف العرق وهذا يمثل عمق العبثية فى الصراع من قبل الصهاينة.
ختاماً نجد أن دولة مثل مقدونيا الحديثة تأخذ من التاريخ منطلقاً رائعا ومنطقيا لبناء حداثتها وهذا يعتبر وازعاً وحافزا للأسف لم تدركه معظم الأقاليم فى وطننا العربى فنجد أن مدينة مثل سكوبيه اختار القائمون عليها الفن كمنطلق للمجد فلن يتخيل القارئ أنه فى محيط أقل من 1.5 كيلو متر مربع أى أقل من كيلوين متر مربع يتركز أكثر من 50 عملا فنيا نحتيا ضخما بعضها يصل لدرجة العملقة ونصبا تذكاريا تخلد الحقب التارخية المختلفة من تاريخ مقدونيا بداية بالفارس المحارب فوق الحصان أو الإسكندر وحتى مناضلى العصر الحديث فى الفترة الشيوعية مرورا بالقوميين فى القرن التاسع عشر أمثال بيتر كاربوش ، ولعلنا لن نبالغ إذا قلنا إن بناء المدن هنا كنظرية جمالية أكثر من مكتمل وعلينا الاقتداء به حيث رصدت اللجنة القائمة على بناء سكوبيه الحديثة أكثر من 200 مليون يورو للأعمال الفنية فقط بحيث تحولت وسط  مدينة سكوبية رويدا رويدا لمتحف مفتوح يتعدى بساطة العرض للعجائب والمعجزات الفنية.