السبت 25 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
حروب فاتنة واصطياد المعنى الهارب

حروب فاتنة واصطياد المعنى الهارب






 تتشكل مجموعة (حروب فاتنة) للقاص والروائى حسن عبدالموجود، والصادرة فى القاهرة عن ( كتب خان) للنشر، من عشر قصص تحيا حالا من الاتصال والانفصال بينها ليس على مستوى الرؤية الكلية ولا العوالم المشتركة للقص، ولكن على مستوى البناء الفنى الصارم والمتواتر داخل القصص والذى يسعى صوب إشباع السرد من جهة، واستجلاء الهواجس الفردية لبشر محملين بالمأساة والهزيمة والقلق اليومى من جهة ثانية.
ويبدو عنوان المجموعة محمولا على نص مركزى داخلها، وأعنى قصة «حروب فاتنة»، ثمة وحدتان فى النص، العسكرى والقائد، وبينهما أطياف من الذكرى تخص المجند المتطلع إلى شجرة الجميز القريبة لكى يحصل على ورقها الذى يخفف الجروح، والحارس عليها الآن،  وتتداخل اللحظة القصصية الراهنة بمثيلتها الماضية ويلعب النص شأن قصص أخرى على مراوحات الحضور والغياب، وجدل الماضى والحاضر عبر مسحة ساخرة تتزايد فى نصوص أخرى داخل المجموعة.
يختار القاص عناوينه وفق آلية خاصة فهى إما جملا مجتزأة من القصص تعبر عن روحها الساخرة المفارقة من قبيل (دراجة تعيد رفيق الحزب القديم) وهو المانشيت الصحفى الذى اختارته جريدة الحزب اليسارى الخارج من رحم الحزب الأم القديم، أو عناوين على غرار (حروب فاتنة) العنوان الدال للمجموعة حيث المهام الصغيرة التى يقودها المجند بشغف بوصفها بطولات تخصه ومعطاة له خصيصا من أجل كفاءته اللانهائية، أو يصبح العنوان تعبيرا عن جوهر الحكاية السردية، أو كشفا موازيا عن جانب منها على غرار (معزة جوركى، النوم مع فتاة مودلياني، ضحكات التماسيح).
يقدم عبدالموجود عالما منسيا ويقربه إلى متلقيه، حيث ثمة بشر ينتمون لأزمنة ماضية وعالم قديم، فعبدالملاك أو تو المنتمى إلى أحد التنظيمات السرية يغادره الزمن مثلما يغادر حزبه وعندما تضغط عليه مفردة «الضمير» المتواترة فى القصة بوصفها اللفظة المعتمدة بين الرفاق، والتى يبنى عليها الكاتب انتقالاته السردية فى الكشف عن النوازع الداخلية لبطله تو الذى يتماس اسمه الحركى مع بطل حكاية تو لفتحى غانم فى تناص مع المخيلة القرائية للمتلقى النوعي. ويبدو تو هنا بطلا إشكاليا موزعا بين واقعه المعيش وحلمه المتخيل باستبقاء (مونيكا) الحبيبة التى ماتت أمام عينيه دون أن يفعل لها شيئا، والمؤرق بكلمة الضمير التى تتردد كثيرا فى النص والتى يشعر تجاهها بانعدام الثقة من جانب التنظيم الذى يشترى له دراجة تعينه على الوفاء بالتزامات الحزب فيقرر إرجاعها، ولو بعد حين من الدهر متحملا سخرية الجميع وموضوعا فى مانشيت صحفى فى نهاية المطاف عن تلك الدراجة التى أعادت رفيق الحزب القديم. وتبدو السخرية المضمرة هنا ملمحا من ملامح النص والكتابة.
قد تصبح الشخصية القصصية المهمشة والمقصاة موظفا فى مكان منسى بالأساس غادره الزمن أيضا كما فى قصة (الغرف المنسية) حيث الموظف الرتيب الذى يعمل مسئولا لمكتب الاتصال فى الجمهورية العربية المتحدة والمستمر فى طى النسيان بمهامه وموظفيه حتى بعد إلغاء الوحدة بين مصر وسوريا. تتعدد الأداءات الرتيبة للموظف وتابعه الأقل درجة فى المكتب حتى تأتى (رغدة) الفتاة المعدمة الشهية التى تمثل فى القصة ما يعرف بالشخصية الحافزة أو المحركة التى تدفع بالموقف الدرامى الراكد إلى الأمام، فتنتعش آمال الموظف فى حياة جديدة تعوضه عن وفاة (رجاء) التى يحاول أن يفتعل شبها بينها وبين رغدة فى حيلة دفاعية تسمى التبرير، وبتواطؤ من الموظف التابع لرئيسه تحضر رغدة مبكرا، وتحين لحظة الكشف فيهُم المفتش برغدة ولكن تحاصره بعدها مشاعر الندم والاضطراب من صورة عبدالناصر المعلقة، وهى سردية قديمة لكنها مبررة فى المسار السردى حيث لم تتغير صورة ناصر فى المكتب على رغم مضى الحقب والسنين.
وفى (معزة جوركى) ثمة وحدات خمس: الأب والأم والابن والزوجة والمعزة أيضا. وتبدو الأم مركزا للحكى فى النص، فهواجسها تملأ الفضاء النصي، بدءا من اعتقادها الجازم بأن (ميشلان) جارتها البعيدة تتجسس عليها وعلى هاتفها المحمول ووصولا إلى المعزة ذاتها التى تحولت إلى هاجس مؤرق للمجموع بحثا عن صاحبها.
تعتمد المجموعة تقنيا أيضا على مفهوم الصورة السردية حيث يتجادل البصرى مع الحكائى فى بنية متجانسة كما فى قصة (العرض الأخير) التى تمتاز بحس إيروتيكى ساخر، حيث ثمة سارد بطل مولع بالكشف والابانة يتحدى النواميس والأعراف المستقرة ومعه سيمون حبيبته التى تشاركه فقرة الحب، فى عرض يشاهده  المساجين فى المبنى المقابل فيُصفرون ويشجعون. وعلى متن القصة ثمة حضور خافت للثورة، ويبدو السارد منشغلا بتفاصيله الصغيرة فى نص قائم على تداخل الأصوات (المأمور، البطل، سيمون، المساجين).
ويتواتر الحس الإيروتيكى فى قصة (النوم مع فتاة مودلياني) الفنان الإيطالى الشهير الذى يأتى حضوره للنص ناعما وغير مفتعل وتصبح لوحته مفجرة للحدث القصصي.
يخرج حسن عبدالموجود إلى جغرافيا سردية أخرى فى قصتيه (إشارات حمراء تفضى إلى بحر) و(ليلة العقرب)، ففى «إشارات حمراء» ثمة كشف عن بعض تفاصيل إنسانية تنطلق من المجتمع العمانى وتحيل إلى غيره أيضا.
ثمة رجل وامرأة دوما هنا فى المجموعة، وتبدو قصة ليلة العقرب التى تستعيد جانبا من حياة المجتمع اليمنى مبنية على المثلث الشهير( الزوج، الزوجة، العشيق)، ولكن على نحو مغاير للأدبية الجاهزة فى هذا السياق، فالزوجة لا تستجيب للناظر اليمني، وزوجها المصرى خامل، لكن حينما تتفاعل الشخصيات الثلاث ويلقى لها الرجل اليمنى بقميصه كى تكتم سم العقرب لا تنسى رائحته أبدا.
ثمة حس صحفى فى «ماء العقرب» و«تراب العذراء»، ونراه على نحو أكثر نضجا وفنية فى قصة «ضحكات التماسيح»، فالرجل الذى غادره الزمن مثل شخوص عبدالموجود يعود بعد تركه للجريدة ليعدل من عناوينها الأولى وبما يجعله عرضة لغضب رئيس التحرير الحالى وتكون لعبة الرجل الغابر هى لعبة حركة التمساح المراوغة والمضحكة فى آن.
وبعد.. «حروب فاتنة» مجموعة مغايرة تكرس لمشروع كاتبها السردى الحقيقى والمختلف.