الإثنين 10 مارس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
سان سيمون  ونظرية التربية والحضارة

سان سيمون ونظرية التربية والحضارة

 عليك أن تعرف ماذا تبنى للغد.. الغد هو ذلك الآدمى الذى تعده وتجهزه لمواجهة الغد وتحمل عبىء استكمال مسيرة الحضارة وإطلاق سيرورتها التى يجب أن تستمر حتى لا ترتجع عجلتها للخلف فنعود مرة أخرى لعصر الإنسان الأول ويأكل بعضنا بعضا وكأننا لم نر من الحضارة شيئا.. لذا عليك أن تفكر فى هذا الطفل الجالس أمامك فأما أن تعطيه كلمة وفكرة ليكون مخلوقا متحضرا فى الغد أو أن تعطية سلاحا فيواجه الغد ببربرية ورعونة.. هكذا تحدث سان سيمون عالم الأجتماع الأشهر لأحد أصدقائة الذى يعمل فى إحدى المدارس وكان يطرح فى رسالته نظرية التربية والحضارة وهذا بالطبع ما نحن بحاجة إليه فى الوقت الراهن، لعل كلمة سان سيمون التى أوردناها آنفا تلخص العديد من مشاكل عصرنا وأهم هذه الأسباب القضايا التى طرحها سان سيمون هى أن الحضارة الشكلية او دعنا نسميها التقنية وهى مجرد شكل اى عرض وليس جوهر فى فكرة الحضارة ومن ثم قارن بينها وبين الكنية البشرية كعامل رئيسى وثابت فى اختراع الحضارة ذاتها بوجهها الحقيقى، لذا نستطيع أن نقول ان حضارة الآلة ليست هى المقصود من فكرة الحضارة بل المقصود هو حضارة العامل البشرى ذاته والذى كلما تبدت فيه معانى الإنسانية والتعاون وإدراك قيم الخير والجمال كان هو الأداة الحقيقية والمعيار والمقياس لما نعنيه بكلمة حضارة ومن ثم نستطيع أن نخرج بفكرة أولية عن مفهوم الحضارة وهى أنها تنبع من الذات البشرية ولا ترتبط بالآلة أو اى قيمة مادية أخرى وربما يمكن أن نحرر لها تعريفا فى ضوء ما نحن علية من ارتجاع حضارى، إذن الحضارة هى مجموعة القيم الإنسانية والأخلاقية – سواء كانت نابعة من تشريع دينى أو تشريع دنيوى أو كليهما معا – التى تحكم علاقات المجتمعات بعضها البعض والأشخاص بعضهم البعض بصورة تمنع الضرر المادى والمعنوى أو الاعتداء بأى شكل من الأشكال. هذا التعريف بكل بساطة يضع أقدامنا على أول طريق الفهم الصحيح للحضارة والتى يفهمها العديد من الناس بشكل خاطىء من حيث هى كم التقدم العمرانى والتكنولوجى وتقديم سبل الرفاهية ولنثبت خلل هذه الفكرة علينا ان نطرق مجتمعات كثيرة تقترب للحياة البسيطة وغير المغرقة فى فكرة الرفاهية التكنولوجية والعمرانية لكنها تتمسك أكثر بالقيم المعنوية التى تربت العلاقات بين اعضاء هذه المجتمعات وبعضها ونجد هذه المجتمعات تتمتع بكم كبير من الاستقرار وهذا الأستقرار يؤدى للمزيد من الأبداع والترقى المعنوى مثل بعض مجتمعات أمريكا اللاتينية البدائية وبعض أجزاء من أفريقيا والتى قد تكون لازالت تحكم بالعرف والتقليد والقانون القبلى الذى يمثل جزءا من القيم الحضارية أيضا ولعل نسبة تواجد القيم الأنسانية والأخلاقية تكون أكثر فيها مقارنة بالمجتمعات التى تم أغراقها بشكل كبير فى الميكنة والتقدم التكنولوجى وهذا يقوم دليل واضح على أن عدم التوازن بين القيم المادية والأخلاقية هو الذى يولد حالة الأرتجاع الحضارى الذى نعيشه فى العشر سنوات الأخيرة. لعل تدارك هذه السقطات التى أدت إلى تشويش النسق الحضارى ومن ثم ارتجاعه هى بالضرورة خللا ناجما عن أسلوب التلقين سواء فى تربية النشأ أو فى تعليمهم وهذا ما أشار إليه أيضا سان سمون حينما قال أن المستقبل هو ذلك الطفل الجالس أمامك فى الفصل الدراسى فإذا أعطيته كلمة وفكرة صنعت منه فى الغد عضوا متحضرا يساير تلك القيم الحضارية السامية وأما إذا أعطيته سلاحا فهو فى الغد سيكون ذلك المعول الذى سوف يشارك ببربريته ورعونته فى هدم الحضارة ذاتها والحقيقة أن السلاح هنا ليس هو تلك الآلة القاتلة مثل المدفع أو السكين بالطبع لا فحدود كلمة سلاح هى أكثر أتساعاً من ذلك وهذا ما يخبرنا عنه ألفريد نورث هوايتهيد حينما يقول أن أقوى سلاح عرفته البشرية هو الكره وكلام هوايتهد هنا حاسم فالبغضاء والكره هما المحركان الأساسيان للنزاع المجتمعى والذى يتنافى مع مصطلح الحضارة كما عرفناه ولأن هذا الكره هو الذى يدفعك لاستخدام العنف ضد الآخر سواء كان باستخدام آلة أو حتى العنف اللفظى والمعنوى والذى ربما كان أقوى بكثير فى بعض الأحيان من ممارسة العنف بالسلاح المادى، و معظم الديانات بها من الخطوط الملتبسة الكثير والتى تتحول فى معظم الأحيان لدوافع للتطرف وهذا ما نواجهه فى معظم المجتمعات الإسلامية حاليا بحيث غلب سوء التلقين فى المرحلة اللاهوتية على معظم أساليب الخطاب التعليمى وبالتبعية الخطاب الدينى الذى أتسم فى الربع الأخير من القرن العشرين برفض واضح للأغيار وأزدراء متعمد للآخر مما ساعد فى تكون جبهات متطرفة كثيرة وهذه الجبهات المتطرفة أصبحت بالتبيعة معاول هدم رئيسة لمقومات الحضارة وما نراه من أسلوب حياة الجماعات المتطرفة حاليا يثبت بما لا يدعو للشك أن الأرتجاع الفكرى فى مفاهيم الحضارة أدى سريعا لإرتجاع فعلى فى أستخدام الآليات المادية للحضارة فنجد فيهم البدائية والكفر بمفاهيم الحضارة الحديثة بل ونجد كما كبيرا من التطرف فى معاملة الآخر هذا التطرف يجعلنا نرى برك الدماء بشكل يومى فى وسائل الإعلام وكأنها أجراس تعلن أنطفاء السماحة والتقبل ومحرك التعاطف مع الآخر ومن ثم تصفيته كفرد فى منظومة حضارية منهارة بكل برود وبشكل أكثر وحشية من عصور الظلام وما قبل الحضارة فحتى القتل أصبح هنا على خلاف سواء عقائدى أو مذهبى وبشكل طقسى وكأنه هو الحقيقة الجلية والواجب أتباعه مع الآخر. ان ارتجاع النسق الحضارى وتحطم سياقه نتيجة عاطفة الكره ورفض الآخر لهو القضية المطروحة بشدة الآن ويجب معالجتها بشكل سريع وإلا علينا انتظار وتوقع الأسوأ فليس من الغريب أن نتخيل القرن القادم بعد أن تأكل التجمعات المتطرفة نفسها ويصبح العالم خالى من أى مظاهر للحضارة وحيث تسمع هنا وهناك دعوات عاقلة للم شمل البشرية وجمعها تحت لواء التحضر بشكل أو بآخر ومع ذلك هى قليلة وغير مسموعة حتى الآن وخصوصا بعد تحول الهيئات العالمية التى خرجت للوجود لتحافظ على النسق الحضارى من الأنهيار مثل الأمم المتحدة أصبحت هيئات تابعة لسياسات الدول العظمى فهى ترعى النسق السياسى تحت مبدأ توازن القوى وبرعاية مباشرة من الدول العظمى ومن ثم تعتبر فى الأساس أحد سقطات النسق الحضارى المنهار وربما كانت هى الأخرى معول خفى فى هدم مفهوم الحضارة عن طريق الكيل بمكيالين نتيجة لوقوعها بالكامل تحت تأثير الدول العظمى، وقبل أن نختم كلامنا علينا ان نطرح هذا السؤال: هل وطننا العربى بكل أقطاره وأقاليمه الآن يتمتع بدرجة ولو ضئيلة من الحفاظ على النسق الحضارى بمعناه الفكرى الحقيقى؟ والأجابة متروكة لمن يهمه البحث فى تداعيات هذا الانهيار.