الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا
فيليبو مارينيتى.. المستقبلية ومذاهب القرن العشرين

فيليبو مارينيتى.. المستقبلية ومذاهب القرن العشرين

لعلنا فى خضم ما نطرح من تساؤلات حول النظرية والفن والفرق بين المذهب الفنى الرصين والبدعة التى ما تلبس أن تنطفأ وتزول بزوال المؤثر والدافع وربما أيضًا بزوال مبتدعها أو الشخصية الرئيسية وراء ظهورها والحقيقة أنه لم تشهد حقبة من الزمان ما شهدته حقبة النصف الأول من القرن العشرين والتى كانت تظهر فيها كل شهر دون مبالغة بدعة فنية أو مدرسة ما أو جماعة وكل جماعة تعلن بيانها التأسيسى والمعروف بالمانيفستو. ولعل أكبر تجربة عاشها الفن بمذاهبة فى هذه الحقبة هى استحالة أن يتعايش المذهب الفنى أوالمدرسة الفنية فى خدمة فصيل سياسى أو طبقة حاكمة ومع أن المذاهب الفنية أحيانًا تنشأ على أساس تدعيم مذهب سياسى أو فصيل سياسى معين أو ربما العكس وهذا كما قلنا كان إحدى سمات مدارس الفن والفلسفة والأدب فى النصف الأول من القرن العشرين.



الحقيقة أنه حتى نوضح هذه الفكرة السابقة بجلاء علينا أن نطرح مثلا يتبين القارئ من خلالة فكرة المذاهب الفنية والأدبية وعلاقتها بمناحى الفكر والحراك العقلى فى فترتها وليس أصدق وأكمل أمامنا من مذهب نشأ فى القرن العشرين وسار فى طريق التخبط محاولا تطوير فكرته الأولية من خلال عمليات عدة باء معظمها بالفشل وهو مذهب المستقبلية الذى يعود الفضل فى ابتداعة للأديب والمنظر الإيطالى فيليبو تومازو مارينيتى وهو أديب ومنظر إيطالى نشأ بين مصر وفرنسا وإيطاليا ويعتبره الكثيرون من صفوة العقول التى حركت الحياة الثقافية والفكرية فى أوروبا كلها فى النصف الأول من القرن العشرين.

ولعل أول ما يواجهنا فى مذهب المستقبلية هو أنها ارتبطت شكلًا وموضوعًا بشخص واحد سواء فى نشأتها أو فى نضالها المستعر لأثبات وجاهاتها وهذا الشخص كان مؤسسها فيلبو مارينيتى والذى كانت التحولات فى شخصيته الفكرية والفنية هى نفس تحولات المذهب بحكم أنه هو المحرك الفعلى للمذهب المستقبلية، والحقيقة أن هذا جعل الحركة تموت موتًا فعليًا وليس تشبيها بموت مارينيتى نفسه.. كانت الفكرة التى دفعت فيليبو تومازو مارينيتى للخروج بهذه المدرسة هو  ذلك التطور السريع فى العلوم الفيزياء الذى تحقق على يد علماء بعينيهم مثل ألبرت أينشتين الذى حطم 40% على الأقل من الموروث العلمى للتاريخ وخرج ليس فقط بنظرية فى الفزياء بل كانت نظريته النسبية هى فلسفة مكتملة، الحقيقة أن أينشتين أثر فى مارينيتى على مستويين أولا المستوى النقدى أى دحض ثوابت كثيرة فى تاريخ العلم والمستوى الثانى هو المستوى التكتيكى, حيث جعل من الزمن بعدًا رابعًا قابل للحركة والتشكيل وهذا بالتحديد ما سار فى دربة مارينيتى فأعلن هو وجماعته الحرب على كل ما سبق من مدارس ونظريات فنية وأدبية ووصل إلى حد رفضها تماما لدرجة أنه فى بداية عنفوانه طالب بتدمير المتاحف وتحطيم ما سبق من أعمال فنية وهذا قاده للإعلاء من قيمة الوحشية والصراع التصادمى الجسدى أى الحرب، وتحت هذا الأطار بدأ بالتبشير بالفن المستقبلى الذى هو فى الحقيقة ثورة على الماضى وقال حرفيًا بضرورة أن يقطع الفنان علاقته بالماضى تماما ليبدأ فى إنتاج فن للمستقبل.

فى معرض حديثنا عن المستقبلية علينا أن نتقبل فشلها فى النفاذ لبدن الكتابة الأدبية بشكل عميق وفعال وكان هذا هو السبب فى الخيبات المتعاقبة لأعمال مارينيتى المسرحية والتى منيت بفشل ذريع واستقبال ساخر من الجمهور والنقاد على السواء فكان الجمهور يتلف العرض بالفوضى والسخرية والتصفير وحتى عمله الروائى التالى وهو مافراكا المستقبلية تم منعه من قبل الرقابة لأنه يحتوى على مضامين لا أخلاقية حتى أن دور النشر أحجمت عن طبع النص ما يقرب من 80 عامًا حتى تم طبعة عام 1994 ، لكن هناك جانبًا مشرقًا وحيدًا فى مسرح فيليبو مارينيتى وهو أنه استخدم تقنيات جديدة فى العرض المسرحى ومن بينها الإنسان الآلى قبل أن يخترع التشيكى كارل كابك مصطلح روبوت بأربعين عاما.

كان فيليبو مارنيتى يمجد الحرب فى مذهبة ومن ثم كان من السهل عليه أن ينجرف فى تيار الفاشية بمجرد نشأتها وكأن أول أتباع الحزب الفاشى من المفكرين لدرجة أنه كان القلم الرئيسى الذى كتب مانيفستو الفاشية أو البيان الفاشى وبعد أن كتب مانفيستو المستقبلية فى عام 1909 أى قبل مانيفستو الفاشية بـ16 عامًا وكان انضمامه للفاشية بعد أن أسس جماعة سياسية تعرف بجماعة السياسين المستقبلية وتأثر كثيرًا بأفكار بينيتو موسولينى الذى كان يلعب على وتر الوطنية وأحياء الحلم الإيطالى فى عقول الجماهير والحقيقة أن مارينيتى حاول تمرير مذهبه المستقبلية من خلال موسولينى ليصبح المذهب الرسمى لإيطاليا لكنه فشل ومن ثم بدأ الصدام الفعلى بينه وبين الفاشية بعد أن كان المفكر الأقدر على كتابة بيانات الفلاشية بشهادة جوفانى جينتيلى الفيلسوف الهيجلى الأشهر والذى كان وراء تأسيس الفاشية والذى صاغ فلسفتها أيضا.

أبتعد فيليبو مارينيتى عن السياسة وهادن الفاشية أى عارضها ولكن بشكل ناعم لكنه أيضا ثار وعارض بكل صراحة اضطهاد الفاشية لليهود على نهج نازية هتلر وبعد أن كان ملحدًا عاد واعترف بطاقة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية على تشكيل خُلق المجتمع والفن بعد أن كان قد هاجم البابا فى شبابه فى مسرحيته طائرة البابا.