الخميس 25 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
القاضى .. والضمير .. والعدل

القاضى .. والضمير .. والعدل

ثلاث مفردات، بينها تكامل مطلق..  فالقاضى هو الضمير الذى يمشى على الأرض لتحقيق العدل.. وهذا الضمير هو ديدنه الذى لا يفارقه آناء الليل وأطراف النهار، وهو ناموسه ودستوره ومنهاج حياته، فضمير القاضى يحيا داخله  فى محراب العدالة.. زاهدًا ناسكًا متبتلاً.. يرد إلى المظلومين حقوقهم، ويضمّد جراحهم... يعكف على دراسة آلاف القضايا وما تحويه من أوراق ومستندات ومذكرات ويستمع للمرافعات والسجالات... 



نعم.. يحكم القاضى بما أفاض الله به عليه من العلوم القانونية والخبرات القضائية لملفات القضايا.. بُغية الوصول إلى القول الفصل.. فيُصدِر حكمًا هو عنوان الحقيقة.. يسعى لتنفيذه صاحب الحق، ويطعن فيه المتضرر منه، وِفق منظومة قانونية متكاملة من الإجراءات  تُقدَّم فيها المستندات وتتبارى فيها المرافعات وتتناطح من خلالها الهامات.. كلُّ طرف يعتقد أنه صاحب الحق دون سِواه فيجتهد ما وسعه الجهد لتأييد وتعضيد وتوثيق رؤاه.. ومنهم من يتعمد إطالة أمد نظر الدعوى مستمسكًا برخصة قانونية أو سِعة صدر قضائية طالبًا آجالاً طوالاً تارة للاطلاع على أوراق الدعوى (وهو الذى أقامها)، وتارة أخرى للاستعداد للدفاع (وقد أُعلن بموعد الجلسة منذ فترة كافية)، وتارة ثالثة لضمّ مفردات قضية أخرى منظورة (ليس لها أساس!)، ورابعة لسابقة الفصل فيها (ويثبت من بعد اختلاف الأطراف والموضوع والسبب)، وخامسة لاتخاذ إجراءات الطعن بالتزوير على أحد مستنداتها (ويثبِت بعد سنوات فى أروقة الطب الشرعى صحتها!)، وسادسة لطلب سماع شهود (يعلم عدم جدوى سماع شهادتهم)  وسابعة و.. و.. و.. وليس فى وِسع القاضى العادل إلا الاستجابة لهذه الطلبات (القانونية)، فالأصل فى الأشياء حُسن النية.. وكل هذا يتكبده القاضى بنفْسٍ راضيةٍ وروحٍ مرْضية.. تسعى لتطبيق موجبات القانون عساه يصل إلى حق طالما كان يؤرِّق طالبه، أو يردّ عن مظلوم فِرية خشى كثيرًا أن تلاحقه.

وطيلة حياته القضائية يجوب البلاد بطولها وعرضها.. يؤْثر على نفسه مصالح العباد.. يُفنى ذاته من أجلهم.. يفتقد الاستقرار والراحة، فهو دومًا مهمومٌ بهِم.. يتأهب فى أية لحظة لتضميد أنّاتهم وتخفيف صرخاتهم التى تؤرّق مضجعه.. فهو (طبيب النفس كما أنه مربى الخُلُق).. يتحمل عِتاب الأهل والأصدقاء عن تقصيره معهم.. يرد حاجة الأبناء فى وقت يقضيه بجوارهم.. عبؤه ثقيل، وهمّه كبير.. مسعاه العدل، ورائده الحق، وغايته نصفة المظلوم.. يبتغى رضوان الله، ولا ينتظر من أحد جزاءً ولا شكورًا..

إنها بنية الميزان الذى رفعه المصرى القديم فى ساحة العدل ليضعَ أعمال الإنسان فى كفةٍ والريشة التى تزن هذه الأعمال فى الكفة الأخرى. إنه الميزان الذى أمرنا الله – سبحانه وتعالى – ألا نطغى فيه. والطغيان يكون بإضافة الهوى والرغبة والغاية فى كفة فيزيد نصيبها وتخف الكفة الأخرى التى تبحث عن الإنصاف.

كلا... إن ذاك الصمت النبيل الذى يخيّم فى الأفق لا يرى. تجتمع الحاستان معًا: السمع والبصر فى معادلةٍ لا تعرف الميل.أليست كلمة (عدل) معادلة مشتقة من مادة (ع / د / ل)؟ كذا يسـاوى كذا... إنها رياضة عقلية تجريدية لا تعمل حسابًا سوى للأدلة والبراهين. البنية الثلاثية نسقٌ فرض نفسه على أنظمة الحياة التى تنشد العدالة من ساحة القضاء إلى ساحة الجامعة إلى ساحة السياسة إلى ساحة الرياضة... كل هذه الساحات تتطلب رجل العدالة الذى يتوسط منصة القضاء وعن يمينه مستشاره القدير وعن يساره مستشاره النجيب.

إنه الضمير... ضمير القاضى... ومصرنا الغالية، هى الخيط الأبيض فى ضمير الإنسانية، هكذا قال الأجانب من علماء المصريات مثل جيمس هنرى برستيد مؤلف «فجر الضمير»... وصوت الضمير يعلو مع صوت المؤذن.. وصوت أجراس الكنائس.. ليعلن مولد يومٍ جديد... يولد النهار لتشرق شمس الحقيقة على العالم ويتبدد الصمت بعد أن استقرت دعائم اليقين فى العقل والقلب واتخذت سبيلها فى شمس البيان... وقبل اتخاذ القرار تمر بالعقل عشرات الأفكار وترحل النفس فى غابة كثيفة الخمائل تبحث فى ظلالها عن مستقرٍ هادئ يعينها على ترجيح كفة على أخرى بالميزان العادل.

ما أُريد التأكيد عليه فى هذه السطور القليلة أن ضمير القاضى يتكامل مع نصوص القانون لتطبيق موجباته وصولا للعدل.. فالقاضى يحكم بالقانون.. والقانون وحده.. ومن ثَمّ لا أعتقد أن هناك مصلحة لأحد أن يُطلِق لنفسه العَنان بالنَّيل من هيبة القضاة.. وقُدسية محراب العدالة؛ فشئون رجال القضاء أمر شديد الخصوصية عظيم الأثر فى تدعيم الثقة فى القضاء ورجاله.. ولا أدعى العِصمة لرجال القضاء - والعياذ بالله - فى مباشرتهم لأعمالهم، فالعصمة لله وحده؛ بيد أن القضاء ينبغى أن تتكامل كل الاتجاهات والرؤى المختلفة للنأى به عن اللدد فى تناول قضاياه، فهو الحصن الحصين والملاذ الأخير لإنصاف المظلومين من عنت الظالمين وقهر المستبدين. 

إنه الضمير.. ضمير القاضى المصرى العادل.. حفظ الله مصر بقضائها وقضاتها الأجلاء الأوفياء.

وبالقانون تحيا مصر