الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
مسيرة التطور التنويرى.. ويقظة الفكر

مسيرة التطور التنويرى.. ويقظة الفكر

يبدو أنه قد حان الوقت لتغيير العبارة الشائعة التى تقول: «إن فلانًا إذا حدثته عن الثقافة.. وضع يده على مسدسه»! لتصبح: «إذا تحدثت إلى ـ بعض ـ رجال الدين عن التنوير.. وضعوا أصابعهم على زناد مسدساتهم وبنادقهم ودباباتهم وطائراتهم وغواصاتهم فى قيعان المحيطات والبحار، وعلى مشارف مثلث برمودا الرهيب! 



فالترجمة الحرفية البعيدة عن التقعُّر فى اللغة واستجلاب وقائع التاريخ لشرح كيفية نشأتها ودلالاتها.. تتلخص فى عبارة وحيدة هى: «إن  التنوير هو إعمال العقل.. ولا سيطرة على العقل.. إلا بالعقل»! أو كما أوضح  الفيلسوف الألمانى «كانط» معنى وشعار التنوير.. حين خاطب الإنسان موضحًا: «تَجَرّأ وفَكِّـر بعقلك أنت»!

 وقد تبدو العبارة بسيطة، لكنها أقامت المعارك الضروس بين بنى البشر من كل الأطياف والأجناس والعقائد والمِلَلْ؛ وسالت دماء العشرات والمئات ممَّن لُقِّبوا بشهداء التنوير؛ ممن حاولوا ـ بإخلاصٍ وتفانٍ ـ إيصال  مفاهيمه إلى عقولٍ تجمَّدت وتحجَّرت وماتت على أغلفة كتب التراث الصفراء ذات «الهوامش» أكثر من «المتُـون»! بل عكف هؤلاء الذين اتخذوا من حرفة تفسير النصوص التراثية للعقائد والأديان ــ وأطلقوا على أنفسهم لقب «رجال الدين» من المستشرقين والمستعربين والهابطين بالمظلة على كنوز التراث الذى بلا صاحب  ــ على محاولة وضع «لمسة» من كلٍ منهم بحسب الأهواء التى يعمل من أجلها؛ والبعيدة كل البعد عن الهدف الذى قيلت فيه الفتوى وقت صدورها من ناقلها أو كاتبها فى ذاك الزمان البعيد؛ فتضيع معالمها بين التفسير والتأويل وإيهام العامة والبسطاء بأنها لا يأتى إليها الباطل من الأمام أو الخلف؛ وعلى البشر أن يأخذوها كمسلَّمات لاتقبل التفكير أو التغيير؛ والويل والثبور وعظائم الأمور لمن يخرج عليها أو محاولة تحويرها ويرتكب جريمة «إعمال العقل» فى محاولة فهم معانيها وأهدافها.

والغريب فى الأمر أن هؤلاء الذين نصَّبُوا من أنفسهم أوصياء على البشر فى الأرض وكأنهم مفوضون من «الله» فى الأعالى؛ يحاولون إقناعهم بعكس ما قاله الفيلسوف الألمانى «كانط» ــ بتصرف ــ عن ضرورة «عدم الاستسلام للكسل والجبن وعدم اللجوء إلى إعمال العقل والفكر؛ ويقول كلٌ منهم: لماذا التعب والإرهاق ولدىَّ كاتب يفكر بدلًا منى، ورجل دين يمثل ضميرى، وطبيب يقرر لى نظامًا غذائيًا، إذن فلست بحاجة لإرهاق نفسى، ولماذا أفكر وهناك من الأوصياء مَن أدفع لهم ليقوموا بكل الأعمال المزعجة بدلًا منى»؟! ويقول «كانط» أيضًا: «إن التنوير هو خروج  الإنسان عن مرحلة القصور العقلى وبلوغه سن الرشد»!

وهكذا تم تعطيل تروس آلة المَلَكَة العقلية عند شعوب الشرق العربى المسيحى والإسلامى على حدٍ سواء، ولعبت «المنابر» فى دور العبادة دورها المرسوم فى تغييب العقل الجمعى عن التطلع إلى ما سعى إليه رواد التنوير فى العالم العربي؛ وبخاصة مع بداية إشراقة فجر النهضة فى مطلع القرن التاسع عشر على يد بعض العلماء ممن تلامسوا مع مستجدات الفكر الأوروبى؛ أمثال من تمت تسميتهم بمجموعة الإصلاحيين الإسلاميين؛ وعلى رأسهم العلامة رفاعة الطهطاوى ومحمد عبده وطه حسين وسلامة موسى، وبعض المتعاطفين من الدول العربية ـ كلٌ فى فترته الزمنية ـ حيث قام هؤلاء بالسعى إلى محاولة بث مضامين إشراقات التنوير الجديدة؛ وكان الهدف الأسمى هو ـ على حد قولهم ـ غربلة التراث ونقد الفقه القديم؛ وإعادة طرح مناقشة المسألة الدينية والعقائدية تحت مظلة العقل وإبعاد كل ما لا يقبله المنطق، والعمل على إطلاق ملكة الحرية الفكرية فى السياسة والحكم وتطبيق مبادئ حقوق الإنسان؛ والتطلع إلى احتواء المعارف والعلوم، بعيدًا عن تلك الأفكار الظلامية التى يبثها الأدعياء من فوق المنابر، والتخلص من قيود وجمود الموروثات التراثية التى لا تواكب مستحدثات العصر ومستجداته والمتطلبات الحياتية الضرورية للبشر على الأرض؛ والدعوة إلى الأخذ بمقومات «التمدُّن» التى انتشرت فى أوروبا، لأن: «التمدُّن منوط بحرية انتشار المعارف» كما جاء على لسان رفاعة الطهطاوي.  

وبعد استعراض  الظروف التى أحاطت بكيف نشأت أفكار حركة التنوير فى العالم؛ ومدى ما وصلت إليه من انتشار بين شعوب العالم ومؤيدى الحرية فى إعمال العقل والتفكير السوى فى أمور الحياة الدنيا: عقائديًا وفكريًا واجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا، والحروب التى نشأت بين دعاة «التعتيم» والجمود والتقوقع داخل أصداف التراث فى أعماق بحار الجهل والتطرف؛ وبين الذين حملوا مشعل الحضارة ودفعوا حياتهم ثمنًا للدفاع عن حرية العقل التى منحها الله لعباده المستنيرين.  

ووجب علينا تحليل انعكاس وتأثير «حركة التنوير» على مجتمعاتنا الحالية ــ المصرية والعربية ــ ومدى تأثيرها على الموقف من المرأة والتعليم والسياسة والفكر والفن والأدب، ومدى فعاليته فى ازدياد اليقظة الفكرية وبخاصة لدى الشباب من جيل الطلائع حملة المسئولية والأمانة فى مستقبل الأمة. 

من أجل ذلك؛ بادرت المؤسسات الدينية فى مصر؛ وعلى رأسها  مؤسسة «الأزهر الشريف» بعقد مؤتمر دولى يهاجم الظالمين للمرأة باسم الإسلام .. تحت عنوان: «المرأة ومسيرة التطور التنويرى الواقع والمأمول»؛ وأدان المشاركون فى هذا المؤتمر الدولى «... ظلم المتطرفين للمرأة باسم الإسلام .. وحذروا من تنامى موجة الإسلاموفوبيا التى تستند إلى الممارسات الخاطئة التى يرتكبها بعض المتأسلمين ضد المرأة وقتلها معنويا...».

و«...إنه لا بد من تضافر جهود جميع المؤسسات من أجل النهوض بالمرأة، فهى كانت ولا تزال محل رعاية وعناية فى الإسلام، واجتهادات الفقهاء تظهر مكانة المرأة وتبدل حالها من المهانة فى الجاهلية إلى العزة والكرامة فى الإسلام...». 

 وعلى الجانب الآخر كان دور الكنيسة فى هذا الصدد؛ هو تعضيد مكانة المرأة فى المجتمع المسيحى والشىء بالشىء يُذكر ـ وكانت مارجريت تاتشر هى أول امرأة ترأس حكومة فى العالم المسيحى لأنه «... فى اللاهوت المسيحى يتساوى الرجل والمرأة فى الحقوق والواجبات، استنادًا إلى تعاليم يسوع فى المساواة بين الجنسين، والمعروف أنه من أبرز مظاهر تكريم ورفع شأن المرأة هو التكريم الخاص لمريم العذراء، لدى أغلب كنائس وطوائف العالم المسيحي، واللاهوت المريمى أحد فروع علم اللاهوت العقائدى الذى يدرس دور مريم فى العقيدة المسيحية، ويعرف أيضًا باسم الماريولوجى...»؛ ولعلنا لا ننسى التكريم الذى حظيت به السيدة العذراء «مريم» فى القرآن الكريم؛ حيث قال الله تعالى: «وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ» سورة آل عمران (42)، فما أعظمه وأجمله وأكمله من تكريم.

وفى هذا الصدد.. أقامت اللجنة المجمعية للمرأة مؤتمرها الأول (فبراير 2020) بعنوان «العنف ضد المرأة»، الذى شهد فعالياته دير السيدة العذراء بجبل أسيوط (درنكة)، بمشاركة  الأنبا لوكاس أسقف أبنوب والفتح، والأنبا يوأنس أسقف أسيوط، والأنبا ثاؤفيلس أسقف منفلوط، وما يقرب من 500 من الكهنة والخدام من ثلاث عشرة إيبارشية، وهى إيبارشيات محافظات أسيوط وسوهاج والوادى الجديد؛ وشهد المؤتمر مشاركة قداسة البابا تواضروس الثانى بمداخلتين؛ بالإضافة إلى 9 محاضرات لمناهضة العنف ضد المرأة وتعضيدًا لمبدأ سيادة التنوير للنصف الآخر من المجتمع؛ والتعريف بأن اهتمامًا عالميًا ومحليًا بالمرأة، وأن الدولة خصصت عامًا للمرأة؛ وتطالب الدولة الكنيسة بترشيح نساء فى مواقع متعددة بالدولة، وضرورة وضع آلية للاهتمام بالمرأة وتثقيفها وتعليمها فى مختلف التخصصات حتى نواكب التطور الموجود ونجد كوادر نرشحها للأنشطة المختلفة فى الدولة.

ولعل المتابع لخطوات الدولة نحو تطوير التعليم ومواكبته للتقدم التكنولوجى وإيمانًا بأن العلم هو السبيل الوحيد لتطور الأمم فى مناحى الحياة كافة؛ وهو السبيل إلى إيقاد وتوهج جذوة الفكر الإنسانى الذى يضطلع بمسيرة التقدم وحمايتها من كل الظلاميين الذى يريدون العودة بالكتب الصفراء لحُكم العالم. 

ولا يخفى على أحد مدى انعكاس التفكير العلمى السليم على إبداعات الكتَّاب والفنانين الذين يشكلون العصب الفاعل فى جسد الأمة المصرية والعربية؛ للخروج بإبداعاتهم إلى العالم الحر فى أنحاء الكرة الأرضية.. وعلى رأسها مصرنا المحروسة التى علمت العالم معانى الحق والخير والجمال.. والحرية.