الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لغة الجينات 81

لغة الجينات 81

فيه مثل قديم يقول: «من راقب الناس مات همًا».. وفيه نوع من البشر «أصحاب الجينات الخبيثة» لا يستطيعون العيش دون تلصص وتطفل.. حشروا أنفوهم فيما لا يعنيهم. «المتطفل» فى الظاهر  طيب يتودد لك.. يسأل عن أدق خصوصياتك ويتلصص عليك بزعم أنه يحبك وعايز يطمن عليك.. وفى الباطن إنسان لئيم لؤم الضباع، خبيث غير سوى، يقتات على فضائح وأسرار الناس، يسعى إلى التدخل بينهم، معرفة تفاصيل حياتهم الخاصة، وإذا طلبت مشورته أضلك عن عمد وقصد ودائمًا يقف موقف الحاسد الحاقد، فهو عدو للنجاح، لديه اضطرابات نفسية، يعانى من انعدام  الثقة فى النفس والكفاءة الذاتية، وعدم الشعور بالأمان، يبحث دائمًا عن «سيد» لينقل له كل الأسرار والمعلومات التى حصل عليها من تطفله.



«المتطفل» فى الظاهر غبى، يرسم ابتسامة بلهاء على شفتيه للجميع أملًا فى كسب ودهم، أو على الأقل تعاطفهم مع الغباء الظاهر فى عينيه والذى يخفى خلفه مكره الدفين، وفى الباطن، حشرى، زنان، لحوح، محدود الخيال والموهبة، يفرض شكل تفكيره المعوق والمعيب وشكل قلبه الملىء بالسواد ونوع كلامه الغث، وشكل تصرفاته الدنيئة  على  كل من يوقعه حظه العثر فى طريقه.

«صاحب الجينات الأصلية» لا يعرف التطفل.. لا يقدر على مراقبة الناس ولا يشغل باله بهم، يبحث فى قرارة نفسه عن أعذار لهم، لا يتوقف كثيرًا عند صغائرهم ومكائدهم، اعتزازه بنفسه وكرامته يدفعانه للحيادية فى كل شىء حتى لو جاءت على حساب نفسه، لا يتلصص.. لا يتدخل فيما لا يعنيه ولا يطارد أحدًا من أجل مكاسب زائلة.. فى الظاهر يتهمونه بالغرور لترفعه عن الصغائر ومشاركتهم فى ألعابهم الدنيئة.. وفى الباطن يقف شوكة فى حلقهم، لأنه ببساطة يمارس الحيادية والنزاهة وهم موجهون.. يمارس البطولة والشرف وهم يسرقون جهود الآخرين، لا يستغل طيبة الناس وهم يقتاتون الصغائر ويزيفون الحقائق. احذر التطفل وحشر أنفك فيما لا يعنيك حتى ولو لمرة واحدة.. فهذه المرة  التى  تزينها لك فيها جيناتك الخبيثة، قد يكون فيها  نهايتك ولا تقم لك قائمة بعدها، لن يغفر لك الناس تطفلك الذى أدى لسقوطك فى مستنقع لا خروج منه.

«إبراهيم باشا الهلباوى» أو جلاد دنشواى، وقع فى التطفل لمرة وحيدة سيطرت عليه جيناته الخبيثة – بالمناسبة أصوله ليست مصرية – هذه المرة  كانت كفيلة بكتابة نهايته للأبد.. كفيلة بتوريثه كره المصريين أكثر من 30 سنة عاشها بعد الواقعة منبوذًا محسورًا، لا يفكر إلا فى التكفير عن خطئه وفى كل مرة يشعر فيها أن الناس نسيت يطارده الهتاف الأليم يسقط «جلاد دنشواى».. فلم يبق منه إلا محطة أتوبيس فى شارع المنيل.

«الهلباوى» فى الظاهر محامٍ مفوه شهير بيضربوا به المثل من إسكندرية لأسوان، كل اللى لسانه حلو ومقنع بيقولوا عليه «لسانه ولا لسان الهلباوى».. الفلاحون والصعايدة بيهددوا بعض: «هقتلك وأجيب الهلباوى» فى إشارة إلى أنه هيجيب له البراءة حتى لو التهمة ثابتة.. وفى الباطن يلبس الحق بالباطل ينحاز إلى جانب الطغاة على حساب أهل مصر  الأنقياء.. يتواضع  فى تحديد أتعابه، ويقدم عرضًا خاصًا للإنجليز بخفض قيمة أتعابه إكرامًا لهم.. وطمعًا فى مكاسب أخرى قادمة على حساب دماء فلاحى دنشواى التى قدمها  قربانًا للطغاة.. فوقف يترافع عن الاحتلال ضد الفلاحين المساكين، ووصف حادثة دنشواى باعتبارها صراعًا بين ضباط إنجليز طيبين وشجعان علموا الفلاحين الملاعين الكرامة، وبين فريق من الهمج المتوحشين يتربصون بهم ويخططون لقتلهم ويشعلون النيران فى أجران القمح كذريعة لقتل الضباط الشرفاء من الإنجليز عمدًا مع سبق الإصرار والترصد.

«الهلباوى» فى الظاهر أعلن أنه سيذهب للدفاع عن الفلاحين فى حادثة دنشواى يوم السبت الموافق 16 يونيو عام 1906، استعد للسفر وأشاع الخبر، وفى الباطن كان يخطط للتقرب للإنجليز، أخر سفره يومًا كاملًا  بحجة عدم  عثوره على وسيلة انتقال مباشرة إلى دنشواى ولارتفاع درجة الحرارة فى ذلك اليوم.. وفى اليوم التالى وعلى رصيف القطار فى القاهرة، وجد الياور الخاص برئيس الوزراء مصطفى فهمى باشا يخبره بأن «الباشا» ينتظره فى مكتبه لأمرٍ مهم. وهناك التقى «المستر» ميتشل، الذى سأله عما إذا كان أحد من المتهمين فى حادثة دنشواى قد وكله للدفاع عنه.. فلما نفى ذلك أخطره بأن الحكومة قد اختارته ليمثلها فى إثبات التهمة ضد المتهمين أمام المحكمة المخصوصة، باعتباره من أكبر المحامين سنًا وأقدمية.

فى اليوم نفسه استقبل الهلباوى فى مكتبه بالمنيل «المستر» موبيرلى المفتش الإنجليزى لوزارة الداخلية و«المستر» مانسفيلد الحكمدار الإنجليزى لبوليس القاهرة اللذين أبلغاه أنهما مكلفان بأن يكونا فى خدمته فى كل ما يتعلق بقضية دنشواى، واقترحا عليه أن يحضر التحقيق وأن يشارك فى استجواب المتهمين، لكنه اعتذر عن ذلك وفضلَ أن يزور مسرح الأحداث ليعاينه.

فى يوم المحاكمة الهزلى وقف الهلباوى ليسجل دناءة نفس لا مثيل لها قائلًا فى مرافعته:ٍ «إن الاحتلال البريطانى لمصر حرر المواطن المصرى وجعله يترقى ويعرف مبادئ حقوقه المدنية والسياسية وأن هؤلاء الضباط الإنجليز كانوا يصطادون الحمام فى دنشواى ليس طمعًا فى لحم أو دجاج ولو فعل الجيش الإنجليزى ذلك لكنت خجلًا من أن أقف أدافع عنهم».

وصف الهلباوى الفلاحين فى ادعائه قائلًا: «هؤلاء السفلة وأدنياء النفوس من أهالى دنشواى قابلوا الأخلاق الكريمة للضباط الإنجليز بالعصى والنبابيت وأساءوا ظن المحتلين بالمصريين بعد أن مضى على الإنجليز 25 عامًا ونحن معهم بكل إخلاص واستقامة».

استخدم الهلباوى جيناته الخبيثة وذكاءه الإجرامى ليكيف الواقعة  على أنها سبق إصرار وترصد ليضمن للفلاحين إعدامًا كاملًا.. وظف اعتداء الفلاحين بالضرب على الضباط الإنجليز ليكون هو الأساس وهو ركن التعمد والترصد.. وأقنع المحكمة الهزلية ورؤساءها المنتظرين الإشارة ببدء تنفيذ الإعدام ،بأن حريق «جرن القمح» دبره الفلاحون الملاعين وأنهم اصطنعوه لإخفاء ركن الترصد.. بدليل أنهم أطفأوه سريعًا وأن هذا دليل قوى على أنهم هم من أشعلوه وليس رصاص الضباط الإنجليز.

وصوّر الهلباوى الأمر أمام المحكمة «الهزلية»  وكأن الفلاحين رتبوا الأحداث بحيث صمموا على قتل الإنجليز إذا جاءوا للصيد فى قريتهم.

حتى شهادة  «الملازم بورثر»  والذى ذكرها أثناء إدلائه بأقواله أمام المحكمة من أن المتهم التاسع «عبد المطلب محفوظ «قد حماه هو وزملاءه من العدوان عليهم، وقدم إليهم المياه ليشربوا، وهى شهادةٌ كانت كافية لتبرئته... شكك فيها الهلباوى وأحضر نجل عمدة  دنشواى فتح الله الشاذلى وهو الآخر قدم الماء للضباط.. وقال إن بينهما شبه كبير، وأنه يعتقد أن الأمر قد اختلط على الملازم  بورثر..فاستدعت المحكمة الضابط الإنجليزى ثانية و الذى قال إن الذى سقاه هو ابن العمدة وحرم الهلباوى المتهم التاسع من فرصته للنجاة من الحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة.

خطأ فادح «تطفل» دفع الهلباوى ثمنه طوال حياته، كراهية الناس له طاردته لآخر يوم فى عمره.. لم يغفروا له أبدًا ولم يذهب بعدها أحد لمكتبه كى يدافع عنه فى أى قضية، وعندما كان يتطوع للدفاع عن أحد، كان الشباب  يطاردونه بإطلاق الحمام فى طريقه وهتاف «يسقط جلاد دنشواى».

ألم أقل لكم إن تطفلًا وحيدًا قد يكون فيه نهايتك.. ألم أقل لكم احذروا من التطفل والمتطفلين.. ألم أقل لكم إن كل قواعد وموروثات التقاليد والأخلاق الحقيقية، والآداب، وتعاليم الأديان... كرهت الإنسان الدخيل المتطفل، الحشرى، وإللى بيفرض نفسه.