عن احتفالات الميلاد.. والترانيم الكنسية
يُعد الترنيم ركنًا مهمًا وعنصرًا أساسيًا فى العبادة المسيحية، حيث تشترك فيه كل الجماعة لتعبِّر عن مشاعرها وتجاوبها مع عمل نعمة الله. لقد استخدمت الكنيسة منذ عصورها الأولى الكثير من الفنون كوسيلة للتعبير عن إيمانها ومعتقداتها. وتحتل الموسيقى والترنيم مكانًا خاصًا بين هذه الفنون، وبه أعلنت الجماعة المسيحية تأكيدها لمحبة الله وعبادته، وتأكيدها على وحدتها وشركة أعضائها معًا من خلال الموسيقى والترنيم.
ولا توجد أمَّة تستطيع أن تعزى لنفسها أصل الموسيقى، بل إنَّ جميع الشعوب تعرف شكلًا أو آخر من أشكال الموسيقى، للتعبير عن حالات الحزن والفرح والانتصار والانكسار.. إلخ. لأنَّ للموسيقى أهمية كبرى، أنها تؤثِّر على شعورنا وعواطفنا، بل تغيِّر من طريقة تصرُّفاتنا أحيانًا. أليس هذا ما أكدته الأبحاث!
وإذا كان العلماء فى سالف الزمان؛ قد رددوا مقولة: «لا يُفتَى ومالكٌ فى المدينة»!، بمعنى أهمية وضرورة اللجوء إلى رأى أهل العلم والمعرفة، وكان هذا بعد حيرتهم فى البت فى حل قضية فقهية معينة ـ ليس هذا مكان سردها ـ فإننى فى بداية حديثى عن الألحان والتراتيل والترانيم الكنسيَّة؛ أقول: لعل الدافع القوى لهذا الحديث؛ هو حصاد ماحضرته على مدار السنوات الأخيرة من احتفاليات موسيقية رائعة أقامها المركز الكاثوليكى للسينما بدعوة من الأب بطرس دانيال رئيس المركز، وأحد الرهبان الفرنسيسكان فى مصرنا المحروسة؛ حارسة وحاضنة الأنبياء والرسُل ـ على اختلاف دياناتهم ومعتقداتهم ـ مذ نشأت على أرض الله الواسعة.
وقبل الدخول فى خضم هذا البحر الواسع والزاخر بكم هائل من الجمال والمتعة والشفافية الروحية التى ليس لها ضفاف؛ فلا يُفتَى والأب بطرس دانيال راعى الفن بالمركز الكاثوليكى للسينما؛ والمشرف على هذه الاحتفالات السنوية بيننا ليدلى بدلوه فلنستمع إلى رأيه كواحدٍ من أهل العلم فى هذا الصدد حيث قال:
«... إن الأناشيد الروحية والترانيم والألحان لها دور منذ بداية المسيحية، بل من قبل المسيحية، فمنذ عصر النبى داود بُنيت المزامير على الألحان، وكانوا يستخدمون الآلات الوترية التى تشبه «الهارب»، بالإضافة إلى الدفوف والرق، وبعد ذلك بدأت الكنيسة تستخدم هذه الآلات، وتضيف إليها آلات أخرى...» و«...نوع الآلات يرجع إلى طائفة الكنيسة وطقوسها، ففى الشرق هناك الطقس الشرقى الذى يعتمد على الدف والناقوس، أما الكنيسة القبطية فلا تستخدم الأورج والبيانو داخلها، وفى الطقس اللاتينى الذى تتبعه الكنيسة الكاثوليكية تستخدم آلات موسيقية مختلفة، مثل الأورج والأورغن والجيتار والكمان، والطقس اللاتينى يتسم بتنوع الأصوات حسب قوة الكورال وعدده وكفاءته...»، و«...(من يرنِّم يصلِّى مرَّتين)! سواء فى المسيحية أو الإسلام أو أى دين، فمن يقرأ قراءة عادية يختلف عمَّن يقرأ بالتلحين والتجويد، وتفرق فى نفسية القارئ والمتلقى معًا، فكلما سمعت ترانيم جميلة ازدادت علاقتى بالصلاة...»!
ولنلق نظرة على هذا الفن الراقى؛ ومدى تأثيره على المشاهير فى عالم الموسيقى والغناء من فنانى مصر والعالم العربى والعالم كله، بداية مما جاء فى سفر التكوين أن «يوبال» وهو من سلالة قايين ابن آدم الذى عاش قبل الطوفان أى نحو أكثر من أربعة آلاف سنة ق.م. أنه أول من عزف على العود والمزمار؛ مرورًا بـ «زرياب العباسى» نديم الخليفة هارون الرشيد؛ وصولًا إلى موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب والأخوين رحبانى و«فيروزتهم» المغرِّدة على إيقاعات هذه الترانيم والتراتيل الملائكية المحلقة فى سموات الأرواح والأفئدة.
ويقولون: إن من رأى خيرٌ ممن سمع؟ فما بالكم بمن رأى وسمع فى آن معا؟
فلقد أسعدنى الحظ بالاستماع إلى «كورال سان جوزيف» بقاعة مسرح المركز الكاثوليكى للسينما بالقاهرة؛ ثم بكنيسة «سانت كاترين» العريقة وإحدى أهم الكنائس الكاثوليكية بمدينة الإسكندرية قبل عامين؛ وحظيت بأمسية روحية رائعة مع الأصوات الملائكية التى ضمت أعدادًا كبيرة من المرنِّمين الكبار والأطفال؛ حيث استمتعت بأكثرمن عشرين ترنيمة وأنشودة للميلاد والسلام بلغاتٍ عدّة، تحت قيادة الأب بطرس دانيال ومؤسسة هذا الكورال الرائع «المايسترو/ الآنسة ماجدولين ميشيل»؛ وعن تاريخ هذا الكورال فقد تم تأسيسه منذ ما يربو على عشر سنوات مضت؛ ومنذ بدأ أولى حفلاته بالخارج فى سويسرا عام 2007، كندا 2008، وفى إيطاليا، بترانيم تدور حول المحبة والسلام والميلاد السعيد، وأنه تم اختيار هذه الترانيم من كلاسيكيات الكنيسة.
وقد تابعت أداءات هذا الطقس الراقى هذا العام فى حفل ترانيم عيد الميلاد ٢٠٢٢ السنوى لكورال سان جوزيف
احتفالًا بميلاد السيد المسيح عبر بث مباشر من قناة سات 7، حيث قدم فريق الكورال والذى يضم ٤٥ مرنمًا وسبعة عازفين 18 ترنيمة وأنشودة للميلاد بعدّة لغات بقيادة الأب بطرس دانيال والمايسترو ماجدولين ميشيل، وجاءت الاحتفالية للعام الثانى على التوالى فى ظل الظروف الاستثنائية على حد تصريح نيافة الأب بطرس والإجراءات الاحترازية: «وتحديات فيروس كورونا المستجد، حيث تم على غير المعتاد تقليل الحضور بصورة كبيرة نتيجة تطبيق إجراءات التباعد الاجتماعى، كما التزم الجميع بارتداء الكمامات طوال فترة تواجدهم داخل الكنيسة، فشارك هذا العام ما يقارب 500 شخص فقط من المسلمين والمسيحيين انصهروا جميعًا فى روح واحدة وتناغم غير مسبوق داخل جدران كنيسة سان جوزيف للاتين الكاثوليك بوسط البلد».
ومن المُدهش فى هذه الأمسيات الروحيَّة الخلاَّقة؛ أن معظم الترانيم يتم إنشادها بعدة لغات: الإيطالية والفرنسية والانجليزية واللاتينية والعربية والأسبانية، وبرغم عدم فهم بعض الكلمات؛ ولكن يسود الجميع حالة رائعة من الانسجام الروحى والنفسى والعقلى مع الموسيقا والترانيم الكنسية المهيبة؛ كدلالة قاطعة على أن لغة الموسيقى هى لغة الأرواح الشفافة السامية السابحة فى ملكوت رب السموات والأرض؛ بلا تعصب أو حقد أسود يفرق بين البشر؛ لتكون راية الحب والسلام هى التى ترفرف خفاقة فوق الأعناق والقلوب، لتعرف البشرية بداية الطريق الحقيقى.. إلى الله!
وكان اللافت فى هذه الاحتفالية حرص الإعلاميين والكُتاب والشخصيات العامة على المشاركة بالحضور منهم: المستشار محمد شيرين فهمى الرئيس بمحكمة جنايات القاهرة، ومهندس الأنفاق العالمى هانى عازر مستشار رئاسة الجمهورية، سفير الجمهورية الإيطالية بالقاهرة والملحق العسكرى الإيطالى، سفير دولة الفاتيكان بالقاهرة، السفير البلجيكى بالقاهرة، القنصل العام الفرنسى وأسرته، نيافة المطران كلاوديو لوراتى مطران اللاتين بمصر، الأنبا توماس عدلى مطران الجيزة للأقباط الكاثوليك.
كما حضرمن الفنانين: لقاء الخميسي، أحمد شاكر، ميرنا وليد، حمزة العيلى، أحمد فرحات، مى نور الشريف، محمود فارس، الموسيقار نبيل على ماهر، المخرج مجدى أبوعميرة، السيناريست مجدى صابر.
ومن الشخصيات العامة: الدكتورة غادة جبارة رئيس أكاديمية الفنون والنائبة ماريان عازر عضو مجلس النواب المصري، المستشار أمير رمزي، مهندسة أمل مُبدّى، الإعلامية لميس سلامة، الأستاذ راجى إسكندر، الإعلامى محمد الغيطى.
وفى ختام الاحتفالية التى كان يقدمها الأستاذ أسامة دانيال، وجه الأب مراد مجلع الرئيس الإقليمى للرهبان الفرنسيسكان بمصر الشكر للأب بطرس دانيال والآنسة ماجدولين ميشيل ولكل أعضاء الكورال على المجهود الكبير الذين بذلوه فى ظل هذه الظروف الاستثنائية لكى يخرج هذا الحفل بهذه الصورة المشرّفة، كما وجه الشكر لجميع الضيوف الذين حضروا ولكل المصريين مسلمين ومسيحيين لمشاركتهم معًا كنسيج واحد احتفالات ميلاد السيد المسيح.
ما أجملكِ مصرنا الحبيبة.. حين تجتمع حبَّات عِقدك الثمين الغنى بماسات وجواهر قلوب أهلك الأوفياء؛ لتزين جيدِك بكل العشق الأبدى الذى لم.. ولن ينفرط مهما طال الزمن. فهذه المشاركة من المسلمين والمسيحيين؛ والنخبة الرائعة من الفنانين؛ جميل أن ترى بين الحضور العديد من أصحاب العمائم من رجالات الأزهر الشريف؛ كل هؤلاء النبلاء غصَّت بهم قاعة المسرح فى صفاء روحى وأجواء هى الجمال والنقاء بعينه، فالكل فى واحد بكل الحب الحقيقى الذى لم تلوثه الأهواء أوالتعصب العقائدى المقيت، وإيمانًا منهم بأن الدين لله والوطن للجميع.
أستاذ العلوم اللغوية بأكاديمية الفنون
وعضو اتحاد كتاب مصر