السبت 27 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
د.جابر عصفور حارس العلم والتنوير

د.جابر عصفور حارس العلم والتنوير

قلتها قبلا وكررتها مرارًا عرفانًا بالفضل وامتنانًا لعطاءات لامحدودة لأساتذتنا ومعلمينا، إن: «البصمات الأولى فى المسيرة العلمية للإنسان ـ خاصة بعد أن يتذوق ثمارها ـ تظل هى الواضحة على جدار الروح بكل ماتركته من تأثيرات وجدانية، وكأنها لوحات مضيئة تحمل كل ألوان قوس قزح على حائط الذكريات التى يستعيدها فى لحظات الجلوس على كرسى الاعتراف بالفضل والإعزاز لمن تركوا هذه البصمات بما لها من علامات فارقة فى المسيرة الحياتية المحكوم عليها ـ من فرط جمالها ـ بالخلود، ولترتد حتمًا ـ وفى إلحاح مستحب ـ بضرورة تسجيل هذا الفضل الذى لابد أن ينسب لأهله وفاءً لهم، لتتلمذنا على أيديهم وشربنا زلالًا من علومهم الرفيعة، وإمدادنا بكل مالديهم من خلق العلماء فى مزيج رائع من الأبوة والبنوة والأخوة والصداقة و...... الأستاذية».



لذا كان حريًا فى هذا المقام أن أذكر أستاذى الدكتور جابر عصفور الذى ترجل عن فرسه ليركب أجنحة تحلق به سحائب الرحمات ليستقر روحا وقلبا لدى البارى العظيم  لتسكن روحه للسلام فى عليين بعد معاناة مع المرض فيغادر دنيانا لكن له فى قلوبنا مكانًا مكينًا باقًا ما حيينا. 

 وقد نعت الفنانة الدكتورة إيناس عبدالدايم وزيرة الثقافة وجميع الهيئات والقطاعات الكاتب والباحث الكبير الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة الأسبق الذى غيبه الموت صباح الجمعة 31 ديسمبر عن عمر يناهز 77 عامًا بعد صراع مع المرض وقالت: «إن الثقافة المصرية والعربية فقدت أحد أعمدتها الراسخة، وأضافت أن الراحل وضع بصمات بارزة فى مجال التنوير وحقق الكثير من الإنجازات الخالدة به، مشيرة إلى دوره الرائد فى البحث الأكاديمى وإدارة المواقع الثقافية التى تولاها، وتابعت أنه مثل الصديق والأب والمعلم لكل من شاركه العمل وتوجهت بالعزاء لأسرته وأصدقائه ومحبيه داعية الله أن يتغمد الفقيد برحمته. «جدير بالذكر الدكتور جابر عصفور ولد فى 25 مارس 1944، تخرج فى قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، حصل على درجة الدكتوراه عام 1973، نال العديد من الجوائز، أبرزها جائزة أفضل كتاب للدراسة النقدية من وزارة الثقافة المصرية عام 1984، وجائزة أفضل كتاب فى الدراسات الإنسانية من معرض القاهرة الدولى للكتاب عام 1995، كما منحه رئيس جمهورية تونس الوسام الثقافى التونسى فى أكتوبر كما حصل على جائزة النيل فى 2019، وهى أعلى جوائز الدولة المصرية قيمة، شغل منصب مدير المركز القومى للترجمة - امين عام المجلس الاعلى للثقافة ثم وزيرا للثقافة هذا الى جانب عضويته للعديد من الجمعيات الأدبية».

أما أنا فلا أملك أمام غيابه ورحيله سوى الإحساس المرير بهول الفقد الذى استدعى شريط الذكريات لتمر سريعة خاطفة أمام عينى الدامعة من فرط الحزن فقد عرفته أستاذًا قديرًا ندين له بكل الوفاء والاعتراف الصادق بأستاذيته وببصماته المؤثرة فى مسيرتنا العلمية والأكاديمية، وهو العالم الجليل والناقد الأدبى الفذ ، الذى ملأ السمع والبصر على الساحة الثقافية المصرية، تاركًا تأثيره الإيجابى على تلامذته وطلابه حيثما اعتلى منصات الأستاذية محاضرًا وناشرًا خلاصة عقله وعلمه بجامعات السويد وأمريكا والعديد من جامعات العالم،.. ولكونه واحدًا من علمائنا المعاصرين الذين تصدروا المشهد الثقافى فى تكليفات متعاقبة بدءا من أمانة المجلس الاعلى للثقافة مرورا برئاسة المركز القومى للترجمة ووصولا إلى حمل أمانة حقيبة الثقافة لوضع منظومة ثقافية لائقة، ولم يأت هذا من فراغ ولكنه جاء بفضل نتاجه العقلى فى مجال تخصصه النقد الأدبى وبحوثه العلمية العديدة التى أحدثت تأثيراتها الإيجابية فى مسيرة الإنسانية، فلقد أثرى المكتبة العربية العطشى ؛ بالعديد من المقالات والترجمات والمؤلفات التى خدمت طلاب العلم فى أبحاثهم التى استندوا فيها على العديد من آرائه وتوجيهاته منها على سبيل المثال لا الحصر: (الصورة الفنية فى التراث النقدى البلاغى) و(مفهوم الشعر ـ دراسة فى نقد طه حسين) و(التنوير يواجه الإظلام) و (محنة التنوير) و(دفاعًا عن المرأة) و(هوامش على دفتر التنوير)، بالإضافة إلى كتابه المائز (زمن الرواية) الذى أحدث ضجة كبيرة بين الأدباء والشعراء، والذى أثار العديد من المنازلات والمقارعات التى ملأت الساحة الثقافية بالكثير من الحوار الثرى البناء، وهو الحراك المطلوب دائمًا فى عالم الأدب والأدباء.

ولعلنا باستعراض عناوين إصداراته ومسيرته التى نال عنها العديد من الجوائز والتكريمات، نجد أنه المهموم والباحث الدءوب عن تجليات (النور والتنوير) لإيمانه بضرورة إضاءة جنبات المجتمع الذى يجب على العلماء أن يأخذوا بيديه للخروج به إلى آفاق التنوير بلا حدود.

إذن فعالمنا الجليل د/جابر عصفور فى كل هذا النتاج العقلى يثبت بما لايدع مجالًا للشك أنه صاحب رسالة سامية ثابتة مؤمنة بأن الثقافة هى تشكيل وجدان الأمة للارتقاء بالذائقة الفنية والإبداعية، لأنها هى التى تشكل الخطوط العريضة لسياسة الدولة والتزامها بضرورة احترام الإحساس الجمعى لتمهيد الطريق الى الحرية بكل أشكالها، ومن ثم الطريق إلى حرية الإنسان الكاملة.

عرفناه عن قرب متميزًا بشجاعة المواجهة دون تجريح، مثالا يحتذى فى معاملاته الإنسانية والعلمية مع طلابه النجباء بكل الروح السمحة، حادًا كالسيف مع كل من يتدنَّى بالإبداع أو ينحرف به عن مساره كرسالة رفيعة تحمل مشعل التنوير فى الاتجاه الوطنى المعتدل الشريف، قابضًا على ناصية مادته العلمية بكل قناعاته المعرفية، واضحًا لايمالىء ولا ينحاز ويضع نصب عينيه دائمًا الاعتزاز بمكانته العلمية كأستاذ أكاديمى، مؤمنًا بضرورة العمل الدءوب والمتواصل لخلق أجيال جديدة تسير على دربه فى الحفاظ على الأمانة العلمية والأخذ بها منهاجًا ضروريًا للنجاح والتقدم والانتشار.

لا يسعنى سوى الترحم على هذا الأستاذ العظيم الذى لايكرره الدهر بسهولة فلروحه الرحمات وطيب الدعوات وداعا حارس العلم والتنوير. صدق أمير الشعراء أحمد شوقى حين أكد على مكانة الأستاذ المعلم بقوله: 

«قم للمعلم وفه التبجيلا.. كاد المعلم أن يكون رسولا».