السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

زيــارة جديـدة لـ 55 فيلـما قـديما

سينما مـصـر

الناقد السينمائى الكاتب الكبير محمود عبد الشكور قام بزيارة جديدة لـ 55 فيلما بكتابه الموسوعى فى النقد السينمائى بعنوان «سينما مصر» الصادر عن دار تنمية للنشر والتوزيع، استعاد جزءا من تراث مصر السينمائى من حقبة الأربعينيات وصولًا للألفية، وحقق حلمه بأن يعيد قراءة أفلام مصرية من زوايا مختلفة وجديدة. واستدعى ذكريات المشاهدة الأولى فى سن الصبا، وذكرياته الخاصة مع صناع بعض الأفلام، وفحص مدى صمودها أمام الاختبار الصعب للزمن، وأمام اختلاف الذوق وتطوره.



لم يذهب عبد الشكور فى زيارته لـ 55 فيلمًا وحده، بل كنا معه نشاهد الأفلام من جديد ونشاركه متعة الاكتشاف بقراءته الجديدة بعين ناقد عاشق للسينما، واتبع الموضوعية فى قراءته بدءا من طبيعة القصة وعلاقتها بزمنها تاريخيا وسياسيا واجتماعيا والنجوم والمخرجين، وتحليل لغتها السينمائية وجماليات التعبير ومدى توظيف العناصر السينمائية. وأثبت مع كل فيلم أن السينما المصرية رغم ظروفها الصعبة وإمكاناتها المحدودة أنتجت أفلاما يمكنها أن تنافس فى أى مهرجان دولى كبير.

 إلا أننى حين قارنت الأفلام القديمة بالأفلام الحديثة صدمت أننا لم نكمل كما بدأنا رغم استمرار نفس المشكلات والقضايا إلى اليوم. استمتعت بقراءة الـ 600 صفحة دون توقف بل وقمت بمشاهدة بعض الأفلام وجدت أخيرا الإجابة على أسئلتى وأسئلة عشاق السينما، لماذا نعيد مشاهدة أفلاما نعرفها ونعرف أحداثها ونحفظ عباراتها وبين الحين والحين نستحضر من ذكرياتنا تلك الحوارات وكأنها كتبت لنا اليوم؟ ولماذا أنصفها الزمن حتى وصلت إلينا؟ 

أصطحبكم بزيارة لبعض مما جاء بالكتاب..

 

غزل البنات

 

لو أن فيلما واحدا يدل على سنوات الأربعينيات الذهبية فى السينما المصرية، ويلخص نهضة المسرح والغناء والموسيقى والسينما فى مصر منذ بداية القرن العشرين وحتى عام 1949 فهو بالتأكيد «غزل البنات» على حد رؤية الناقد محمود عبد الشكور.

ينتمى الفيلم إلى لون من ألوان الدراما السائدة فى تلك الفترة إلى الكوميديا الاجتماعية الانتقادية يكشف عن حال المجتمع والتفاوت الطبقى، قدم الريحانى بالسينما شخصية جديدة عكس شخصية «كشكش بك» المحظوظ التى قدمها بالمسرح. شخصية الأستاذ حمام المدرس البائس سيئ الحظ نموذج للمواطن المصرى البسيط حسن النية الذى يفتقر إلى الحظ ويسخر من حاله قبل أن يسخر منه الآخرون. ظن أن الحياة ابتسمت له أخيرا بوظيفة وفتاة جميلة تحبه «ليلى بنت الباشا»، ولكنه يكتشف أن الحياة ما زالت تخاصمه حين تحدث يوسف وهبى عن التضحية من أجل المحبوب، عرف أنها لم ولن تحبه وهى ليست إلا حلما لم يتحقق.

النظرة الانتقادية حاضرة بالفيلم حين قارن أستاذ حمام راتبه كمدرس بالرجل الذى يرعى «الكلب» بمرتب 30 جنيها شهريا، وذلك فى إشارة لضعف راتب المدرس تلك وثيقة شاهدة عصرها، ربما لأن كاتب السيناريو بديع خيرى كان يعمل مدرسا. وأيضا السخرية من سطحية الباشوات وحياتهم المرفهة، بشخصية ليلى مراهقة طائشة لا تشعر بحب أستاذ حمام وانتقلت عاطفيا من محمود المليجى إلى أنور وجدى فى لحظة!

أربعة أماكن فقط تم فيها تصوير الفيلم: مدرسة أستاذ حمام، قصر الباشا، الكباريه، قصر يوسف بك وهبى. ومن المشاهد التى لا تنسى صدمته العاطفية وبكاؤه حين علم أن ليلى لا تحبه وهو يستمع إلى أغنية عبد الوهاب المؤثرة «عاشق الروح»، وأن ظهور كل من محمد عبد الوهاب ويوسف وهبى بشخصيتهما الحقيقية توظيف لصالح الفكرة وليس خروجا عنها.

ومشهد النهاية حيث امتزج حزنه بضحكته الساخرة. فلم يستخدم الريحانى قطرة للبكاء، ربما استحضر أحزانه الحقيقية الشخصية بعيدا عن الفيلم، لذا؛ لا نعرف هل كان يعبر عن حياته أم عن ملايين المصريين الذين خذلهم الواقع. نهاية الفيلم نهاية غير مألوفة ليست نهاية سعيدة وهذا أمر يتناقض مع نهايات الأفلام المصرية فى تلك الفترة.

 

معلهش يا زهر

 

الفيلم يدعو إلى العمل الحر كوسيلة للتغير للأفضل وإعلان نهاية دولة الموظفين، وأيضا يناقش القيم المتشددة فى اختيار العريس أنها حكاية ضد الروتين بكل أشكاله.

فيلم «معلهش يا زهر» 1950 يكشف متاعب عالم الموظفين فى شخص «صابر أفندى» جسدها الكبير زكى رستم بأداء المشخصات المتمكن بكل تفاصيلها، قدم نموذج الموظف البسيط عزيز النفس، يتعرض طول الوقت إلى التهميش بعمله لم يحصل على المكانة الجديرة بإخلاصه. ومع ذلك يدافع عن وظيفته لأنها تحقق له القيمة والمركز.

حين تعين المفتش العام «زهير» سراج منير رفيق طفولة زوجته «اعتدال» ميمى شكيب، وقام زهير بترقيته إلى كبير مستخدمين، وبدأ التلميح وعن علاقة زوجته بالمفتش العام. اكتشف صابر أن عالم الموظفين كله نفاق ووشايات.

وعالم آخر فى مواجهة عالم الموظفين خط رومانسى عاطفى غنانى قصة حب «نجفة» شادية من ابن البقال «حسنى» كارم محمود، ويرفض صابر أن ابن البقال يكون عريسا لابنته، ولكن البقال الظريف واللطيف الحاج جمعة «عبد الفتاح القصرى» استطاع أن يجعل صابر يراجع كل أفكاره ويستقيل من الخيرى حتى بعد ترقيته باع أرض ورثها، وأصبح شريكا مع البقال فى شركة الصابون، ويتحول الموظف إلى العمل الحر.

وربط «عبد الشكور» بين أفلام ترصد تدهور دولة الموظفين مثل فيلم «أم العروسة» 1963 الذى اضطر إلى الاختلاس لتجهيز ابنته، وفى 1985 فيلم «الموظفين فى الأرض» تدهور حال الموظف، وأيضا فيلم «عنبر»، إلا أن صابر أفندى نجا بنفسه إلى العمل الحر. 

 

عنتر ولبلب

 

كتب على أفيش فيلم «عنتر ولبلب» أنه كوميديا من نوع مبتكر، وفن جديد لم يسبق عرضه، يعرفه البعض بفيلم «الأقلام السبعة» والقلم بالعامية المصرية أى «الصفعة»، أثبت الفيلم أنه يمكن أن تقول أمورا مهمة وخطيرة سياسية ووطنية من خلال حكاية شعبية بسيطة ومضحكة.

ويعود نجاح الفكرة إلى الحبكة المتماسكة والحوار لبديع خيرى مع أن لكل صفعة حبكة وقصة تولد من قلب الصفعة القديمة، ليتحول عنتر إلى شخص جبان لا يفكر سوى فى الاختباء من لبلب.

 صفعات تندرج من الممكن إلى المستحيل وصولا بأصعب صفعة فى الطائرة كان لبلب خائفا من سقوط الطائرة وكان يقرأ كتاب «كيف تهبط الطائرة» وصفعة القلم السابع وصفق الجمهور على الأرض أثناء ارتفاع الطائرة.

كان اسم الفيلم الأصلى «شمشون ولبلب» رفع من صالات العرض 1952 وتم تغيير اسمه إلى «عنتر ولبلب»، والسبب اعتراض الجالية اليهودية المصرية على اسم «شمشون» وتقديمه أنه فتوة شرير بينما هو من أبطال اليهود فى التوراة. وذكر «عبد الشكور»: لا أظن أن اختيار اسم شمشون أصلا لدلالته اليهودية بل هو يحمل دلالته فى الذاكرة الشعبية المصرية واختر كبديل لشمشون اسم عنتر أحد رموز القوة المفرطة الراسخة فى الوجدان الشعبى.

والبعض امتد اعتراضه على مضمون الفيلم أنه معادٍ لإسرائيل كانت دولة جديدة وقتها وأنه محمل بالإسقاط السياسى على احتلال اليهود لفلسطين، وذلك من خلال شخصية شمشون الذى ينجح «لبلب» بالذكاء وبالفهلوة بمحبة الناس فى طرده وإهانته بسبع صفعات، يقيم زفة شعبية غنائية ابتهاجا بالصفعة، وهنا تكمن رمزية السبع صفعات هو جلاء المحتل. 

وثراء فكرة الفيلم جعلت البعض يفهمها فى نطاق القضية الفلسطينية. وكانت أحداث سياسية مصرية جرت قبل عدة أشهر من عرض الفيلم وهى وجود الإنجليز بقناة السويس. كما يقول لبلب بالفيلم «إما الجلاء أو القلم السبعاء» يقصد بها بالفيلم جلاء عنتر عن الحارة.

ونلاحظ أسماء محالّ ومطاعم الحارة دالة على فكرة العمل: عصير الجلاء، مطعم الحرية، جزارة القنال، عجلات الوحدة، بينما اسم محل «كوردنييرى» رضوان «لتصليح الأحذية الوحيد المتواطئ مع عنتر هو والد  لوزة المطربة حورية حبيبته لبلب. 

 

حياة أو موت

 

من منا ينسى هذه الجملة «من حكمدارين العاصمة.. إلى أحمد إبراهيم القاطن فى دير النحاس لا تشرب هذا الدواء الذى أرسلت ابنتك فى طلبه الدواء فيه سم قاتل»، فيلم «حياة أو موت» 1954 أحد أعظم أفكار الفيلم إنقاذ المواطن العادى البسيط «أحمد إبراهيم» عماد حمدى فى ليلة غير عادية «ليلة العيد» حين اكتشف الصيدلى «حسين رياض» خطأ بتركيب الدواء فيحاول إنقاذ المواطن. يظهر اسم الصيدلية خلفه «لوتس» كتحية من صناع العمل للمنتجة الفيلم السيدة «آسيا» وشركتها لوتس.

حكمدار العاصمة رجل البوليس يوسف وهبى يترك بحثه عن مجرم خطير من أجل البحث عن الطفلة وإنقاذ مواطن من الموت. واستخدام الإذاعة التى كانت تتوقف لإذاعة النداء إلى أحمد إبراهيم وتنبه لعدم أخذ الدواء.

يعد من أفلام الواقعية الجديدة من ناحية الفكرة الإنسانية والعناية بالتفاصيل قدمه أحد اسطوان الدراما السينمائية كمال الشيخ إخراجا وكتابة سيناريو وجرأة التصوير الخارجى بشوارع القاهرة. الفيلم يعد وثيقة عن أشياء لم يعد لها وجود مثل ترمواى مصر القديمة/ العتبة. واستخدام كلمة البوليس قبل أن يستخدم كلمة «الشرطة» وأسعار فستان الطفلة جنيهين ونصف، وتذكرة الترمواى قرش واحد، فيلم عجيب وغريب عن زمنه التكثيف المحكم للدراما تمت فى يوم واحد، أنها حكاية رجل وحكاية زمن انتهى.

 

إمبراطورية ميم

 

قصة إحسان عبد القدوس وقام بإعدادها للسينما نجيب محفوظ وعمل تغييرات لأن القصة الأصلية كانت لأب يتمرد أولاده على سلطته، وتحولت القصة أم وأولادها بما يناسب فاتن حمامة.

إلى اليوم يستقبل الفيلم أنه اجتماعى أسريا مجرد حيرة أم بين أولادها وعملها وعواطفها والزواج، إلا أن أغرب فكرة عائلية هى مطالبة الأبناء بانتخابات حرة لاختيار الشخص الجدير بإدارة الأسرة ترشح الابن الأكبر نفسه للأسرة وتحدث مع أخوته عن الحقوق المكتسبة ومعنى وحدود السلطة من أجل ترسيخ ثقافة الحوار بدلا من ثقافة التعليمات، واشترك بالانتخابات الشعب وهما الخدم بالبيت. ثم يختار الجميع الأم كقائدة للعائلة بالانتخاب وليس علاقة الدم القدرية.

استوعب محفوظ مغزى حكاية إحسان وأعجبه أن المعادل الموضوعى للفكرة يدور فى وعاء الأسرة مناقشات الأولاد، ولكن لا يريد الفيلم سقوط سلطة الأم بل تطويرها لتناسب العصر. فهذا جيل قلق يرفض المعايير القديمة يريد تحقيق ذاته ويناقش كل شىء، لذا، اندمج المستوى الاجتماعى والمغزى السياسى معا، الهدف من الانتخابات ليس تحطيم فكرة القيادة والسلطة والإدارة، ولكن ترشيدها بتكريس العقد الجديد القائم على الحب والحرية وكل الأمور قابلة للنقاش والحوار. وتحولت الامبراطورية إلى جمهورية واحتفظت بلقبها امبراطورية ميم.

الإعداد السينمائى لنجيب محفوظ اشتركت فيه كوثر هيكل ومحمد مصطفى سامى والحوار كتبه إحسان عبد القدوس. الكل أخلص للحكاية الاجتماعية بنفس الدرجة للمغزى السياسى لها. وكأن امبراطورية (ميم) مصطلح يصدق على عائلة كل أفرادها على حرف «الميم» ويمكن أن يصدق على وطن بأكمله بحرف الميم وهو (مصر) بالتأكيد.

 

سنة أولى حب

 

الفيلم حالة فريدة فى تاريخ إخراج أفلام السينما اشترك فيه خمسة مخرجين هم: صلاح أبو سيف، نيازى مصطفى، عاطف سالم، حلمى رفله، وأشرف على إعداد نسخة الفيلم المخرج كمال الشيخ. ولكن هو ليس ضمن أفضل أفلام المخرجين الخمسة إلا أنهم ظلموا أنفسهم وتاريخهم أكبر من الظلم العجيب الذى لحق ببطل «سنة أولى حب» وأسرته، استمد الفيلم أهميته من أنه مكتوب على أفيشاته أسماء المخرجين الخمسة، ومع ذلك متواضع فنيا لم يحقق نجاحا جماهيريا رغم كل هذا الحشد من النجوم والمخرجين.

وليست أفضل ما كتبه مصطفى أمين، ويخمن عبد الشكور عن مبرر لكل هذا الفريق الإخراجى أنهم فقط تحمسوا لخوض التجربة، حيث تردد وقتها بالصحف بأن أسند لكل مخرج مشاهد من السيناريو صورها ووفقا لنوعية أفلامه وأسلوبه مثلا: مشاهد البيت الفقير تناسب صلاح أبو سيف، ومشاهد الاغتيال السياسى تناسب نيازى مصطفى، وتركت المادة المصورة للمخرج كمال الشيخ، كى يبنى الفيلم سرديا ومونتاجيا.

ويستنكر عبد الشكور هذا الأداء: لا نعرف صحة ما كتب وقت عرض الفيلم 1976 وإذا كان هذا صحيح فإننا أمام مهزلة لا علاقة لها بمعنى الإخراج السينمائي. وإن ما شاهدناه بالفيلم لا يدل على بصمة واحدة ولا على أسلوب متماسك ومتناسق، وليست فى الفيلم أى إضافة تليق بأسماء هؤلاء المخرجين، وإن مشكلة الفيلم الأساسية فى السيناريو سذاجة عبارات كثيرة فى الحوار استهلكت فى أفلام كثيرة. اضطراب إيقاع الفيلم بسبب عدم تجانس ما تم تصويره.