الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

النداهة

أجساد تلبى نداء الدراما فى طواعية واستسلام

«هل تسمعون هذا الصوت العميق الساحر.. القادم من المجهول.. دعونى ألحق به».. متى ندهتك النداهة لن تملك سوى أن تستجيب.. تسلب عقلك وروحك..تطوف وراءها..  روح هائمة تأخذك إلى عالم آخر.. ربما يدفعك الفضول للاطلاع عليه.. عالم بعيد تتشكل حوله أساطير غامضة. هكذا خلق الوعى الجمعى بالأرياف إطارًا مقنعًا لقصص زائفة؛ تماهى معها وكأنها واقع حدث بالفعل؛ قد تسمع حكايات حول فلان ندهته النداهة واختفى أو ندهته وسلبت عقله؛ أسطورة ريفية تناقلتها العائلات عن امرأة شديدة الجاذبية والجمال؛ يهمس صوتها فى أذن عشيقها تتشكل فى صورة مبهرة تسلب العقل والوجدان ينسحب وراءها ناسيًا أهله وكل شيء إلا نداءها.



خرافة انتشرت وبقوة فى القرى المترامية بالريف المصري.. لا أحد يعلم مصدرها الحقيقي؛ مجرد قصص متداولة عن فتاة باهرة الجمال كانت تعيش فى إحدى القرى بريف مصر تقدم العديد من الشباب لطلب يدها لكنها رفضت كل من تقدم لها؛ وذات ليلة عثروا على جثتها مقتولة بجانب الترعة؛ بعد تلك الحادثة بدأت جثث الشباب تطفو عائمة بسبب استجابتهم لصوت جميل يجعلهم يهيمون على وجوههم ثم يلقون حتفهم غرقا؛ تضاربت الأقاويل حول شدة جمال الفتاة صاحبة النداء, ثم سرعة تحولها من الجمال الساحر الآخاذ إلى خلقة دميمة شديدة القبح تثير الرعب والفزع فى قلب كل من يتمادى بالنظر أو التحدث إليها؛ تلك الأسطورة الراسخة فى عقول ووجدان الخيال الشعبى المصرى تناولتها المخرجة والمصممة رجوى حامد بخيال الرقص المعاصر.

ندهت الدراما رجوى القادمة من عالم الباليه ولبت النداء منصاعة للتفاصيل الدرامية المحركة لأحداث وحكايات هذه المرأة الأسطورية؛ كانت هذه التفاصيل الدافع والمحرك للتحرر من قيد حركات الباليه والأشكال التقليدية بالتصميم الحركى فى الرقص المعاصر؛ بدا العمل أقرب للمسرح الراقص منه إلى مجرد عرض يستعرض الإمكانيات والمهارات الجسدية لفريق فرسان الشرق.. استجابت أجساد الراقصين فى طواعية واستسلام لنداء هذه النداهة التى ألقت بهم فى عالمها السحرى الغامض؛ ليخرج لنا عملًا فنيًا مزج بين روح الدراما فى أعمال الإثارة والرعب والغموض؛ وبين متعة الرقص فى خفة حركته وتشكيلات الراقصين على خشبة مسرح الجمهورية؛ تكوينات جماعية وثنائية تحيزت للتعبير الحركى الجلى الواضح فى تناول شدة الإثارة والغموض؛ من هذا النقيض خلقت رجوى استثناءً فى تناول أحد أشهر قصص التراث؛ جاءت المخرجة من عالم الباليه المقاوم للجاذبية الأرضية؛ جذبتها «النداهة» إلى عالمها السفلى لتهبط بها من التحليق فى السماء إلى باطن الأرض؛ فى هذا العالم السفلى يقطن الجنيات يداعبن الرجال لجذبهن إلى هذا العالم المثير؛ تمردت المصممة على ملائكة السماء وهبطت غارقة بين شياطين الأرض.

تنقلت بين هذين العالمين بخفة ورشاقة وذكاء كبير فى تصميم تشكيلات حركية وإبداع مشاهد تسيدت فيها الدراما على الرقص؛ كان للحكايات الكلمة العليا حتى ولو لم تنطق أفواه الراقصين بها؛ بينما نطقت أجسادهم بتلك الخرافة؛ سرد قصصى وحكى بالحركة والرقص والموسيقى وكأنك تشاهد عملًا مسرحيًا صامتًا تجلى فيه الجسد ليحل محل الألسنة؛ ما عجز عن حكيه اللسان رواه الجسد بدقة ووضوح واقتدار؛ وبالتالى خلق العرض حالة من التواصل الاستثنائى بين أبطاله والجمهور؛ دون أن تضطر المخرجة إلى وضع جمل حوارية طويلة أو مشاهد درامية منطوقة على خشبة المسرح, بينما اكتفت بالأجساد الناطقة بالمعنى الذى أرادت إبرازه على مدار مشاهد العرض المتفرقة.

تتلوى البطلة «النداهة» كالثعبان بين الحقول المهجورة تظهر وتختفى وراءها فى رشاقة وليونة والتواء..تمارس دورها فى الجذب والإغواء لاستدعاء ضحيتها الجديدة حركة بطئية متأنية فى صعود وهبوط لتلك الأركان المترامية فى خلفية المسرح التى أعدت بالخوص لتوحى بوضع هذه الحقول المهجورة بالقرى وعلى جانبى المسرح برج الحمام والساقية؛ صورة سينوغرافية شديدة الروعة والإتقان أوحت بدقة عن حالة الرعب والرهبة التى تصيب كل من يتواجد فى هذا المكان المحاط بالقش الذى هجره البشر؛ تعيش الجنيات فى تلك الأطراف المترامية وتستدعى بالنداء هؤلاء الرجال الذين انبطحوا أرضًا فى إشارة لانجذابهم جذبًا أرضيًا لهذا العالم السفلى الذى لا فكاك منه؛ مشاهد متتابعة بدا فيها الرجال منبطحين فى حالة من الوله والجذب لهذا النداء الذى لا يكف عن استدعائهم؛ وصورة أخرى لنساء القرية فى حالة عديد وحزن على ما آل إليه وضع رجالهم على يد تلك الشيطانة الساحرة.

قراءة مسرحية تعبيرية نسجتها المصممة والمخرجة حول صراع الخرافة والعلم؛ ما بين ربط هؤلاء الشباب بالأحبال لإيقاف قدرتهم عن الحركة بربطهم بالقيود كى لا يستجيبون لهذا النداء الموحش؛ وبين دور العلم فى رفض هذه الخرافة من أساسها يتحول الصراع إلى العقل والذهن فى مواجهة هذه الهلاوس دون الحاجة إلى قيد مادى يعجزهم عن الحركة والمنع من الاستجابة؛ شاب يدخل فى حالة من التشوش الذهنى والنفسى فى صراعه المرير وتشتته بين الرفض أو الاستجابة لهذه المرأة؛ انقسم إلى نصفين فأصبح له وجهان..وجه غير واع وقع فى غرامها؛ ووجه آخر محاولًا هزيمتها بالإدراك والوعي.. وقت أن يدرك بالعلم والمعرفة مدى ما ينساق إليه من خرافة وهلاوس لا أساس لها سوى نفسه؛ اللاوعى الكامن داخله الذى يخلق من حواجز الخوف سيناريوهات توقعه فى المخاطر, فالإنسان يهوى دائمًا خلق الأساطير ليعيش فى تحدٍ؛ قد تتشكل هذه التحديات فى اختلاق صور وخرافات من أشياء يخشى التعرض لها يهيىء له عقله وقوعها بالفعل ليقيس مدى قدرته على مواجهتها؛ تنشأ حرب طويلة بينهما تسود فيها الخرافة وفى لحظة إدراك ينهض مقاومًا..يظن أنه هزم تلك الشيطانة أو الأسطورة المختلقة؛ بينما فى مشهد يجسد الصراع بينه وبينها وكأنه يصارع نفسه وأوهامه تسقط منهكة على الأرض وكأنه انتصر وقضى عليها؛ ثم ينتهى العمل نهاية بديعة بعودتها مرة أخرى وكأن الأسطورة تبقى حية فى الوجدان مهما سعى العلم ليمحو أثرها؛ إلا أنها تظل خالدة فى نفوس أصحابها!

أبدع أنيس إسماعيل فى تصميم الديكور الواقعى لصورة القرية المهجورة؛ وكذلك فى تصميم الملابس الموحية بعالم الجن والشياطين, منح هذا التصميم بعدًا آخر بالرعب والرهبة والغموض, حيث ساهم فى إضفاء هذه الحالة المثيرة على العمل بالكامل, بينما كان ينقص العرض وبشدة انضباط الإضاءة فى أكثر من موضع؛ تسببت أحيانًا فى التشويش على الكثير من اللحظات المهمة بالعرض الفنى ولو انضبطت لانسجم العمل فى قالب بديع من الرعب والإثارة؛ شارك فى بطولة العرض النداهة ياسمين بدوى التى حرصت على التمثيل مع إتقان الأداء الحركى وكذلك إبراهيم خالد فى دور العقل والآخر فى دور قلب البطل باسم مجدي؛ محمد هلال؛ أمجد عبد العزيز؛ دنيا محمد؛ فاطمة الشبراوي؛ موران محمد؛ مى رزيق؛ هنا صطفى؛ فاطمة محمد؛ منال المتولي؛ نور مصطفى؛ رناء علاء؛ فاطيمة محمد؛ صافى محمد؛ إعداد موسيقى محمد خالد.