الأربعاء 3 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«ريا وسكينة» مُساءلة التراث فى سيمفونية راقصة

يشكل التراث جزءًا كبيرًا من الوعى الجمعى والوجدان الشعبى، تبقى حوادث بعينها عالقة بالأذهان مغلفة بمزيج من الخيال والأسطورة وبعض من الحقيقة، مثل حكاية «ريا وسكينة» صاحبتى الجرائم والرعب الأشهر على مر التاريخ، استقر فى الوجدان والخيال الشعبى أنهما بطلتا الشر، لكن لم يتساءل أحد عنهما كيف كانت نشأتهما، ما الدوافع التى حركت هاتين المرأتين لاحتراف الإجرام بهذه الطريقة الوحشية، ما البيئة التى أحاطت ريا وشقيقتها سكينة فأنتجت هذا التشوه النفسى والهوس بالسرقة والقتل؟! تساؤلات عديدة تطرحها بجرأة وقوة المخرجة ومصممة الرقص كريمة بدير فى آخر نسخة بالإعادة الثانية لعرضها «ريا وسكينة» على خشبة مسرح الجمهورية، تتناول الأبعاد النفسية والاجتماعية التى أدت بهذه الأسرة الوصول إلى الهاوية، كما أشار صلاح عيسى فى دراسته وكتابه «رجال ريا وسكينة»، الذى أوضح فيه أن أحدًا لم يشغل نفسه بالبحث وراءهما قائلًا: «لو أن أحدًا من دارسى موجات الهجرة الداخلية كان قد اهتم قبل ذاك أو آنذاك بـ «تغريبة بنى همام»، لعرفنا متى ولماذا غادرت ريا على همام وسكينة على همام مسقط رأسيهما فى الكلح فى أقصى الجنوب بالقرب من أسوان، حيث الفقر والجدب والوباء ونقص القوت ولتتبعنا خط سيرهما الطويل بين القرى والعزب والكفور والمدن الصغيرة المتناثرة على شاطئ النيل تحلبان ضرع الأيام وتبحثان عن لقمة تدفعان بها غائلة الجوع». من هذا المعنى انطلقت كريمة بدير متحررة من سجن الوعى الجمعى والنظرة النمطية لتناول صورة البطل فى هالة أسطورية، ففى هذا العرض تمثل بطلتاه صورة ضد قانون البطل المتعارف عليه بالدراما تناول سيرة «ريا وسكينة» فى سيمفونية راقصة برؤية نسوية خالصة لامرأتين قد تمثلان شكلًا من أشكال الضحايا للقدر والمجتمع والبيئة التى أحاطت بهما.. ليس دفاعًا عن جريمة بقدر ما وضعت الأمر فى إطار من الجدل والمُساءلة للتراث والميراث التقليدى الذى يطلق أحكامًا فضفاضة على أفعال البشر قد يصنفهما أشرارًا وأخيارًا دون فحص الدوافع وراء كل ما ارتكبوه من أفعال، إلى جانب المساءلة الكبرى للتراث الذى يضع المرأة عادة فى شرنقة مظلمة ويلخصها فى المتعة والغواية خاصة بالمجتمعات الشرقية فى تلك الفترة من عشرينيات القرن الماضى، التى أحيانًا ما يستغلها المجتمع الذكورى على وجه التحديد للوصول إلى مآربه وسد احتياجات غرائزه، يدين هذا المجتمع تلك المرأة ويجعلها فى مرتبة دونية أدنى من الرجل حتى فى مجال الجريمة قد يرتفع شأن بعض المجرمين ويراهم وينسج نفس التراث عنهم الأساطير والخيالات الوهمية مثل «أدهم الشرقاوى» الذى كان قاطع طريق بالأساس ويراه صاحب الموال الشعبى بطلًا شعبيًا.. ليس لأى سبب سوى أنه رجل، وقد ينتمى إلى طبقة اجتماعية أعلى من الطبقة التى انحدرت منها «ريا وسكينة» قرر شاعر الموال الشعبى رؤيته بهذه الصيغة، بينما فى المقابل نسج الخيال الشعبى الأساطير المبالغ فيها عن جرائم «ريا وسكينة» دون أن يحلل دوافع تلك الجريمة. على لسان الابنة «بديعة» ابنة «ريا» جاءت رواية الأحداث وتتابع مشاهد العرض الذى مزج مزجًا بديعًا بين الرقص والدراما، فى صياغة فنية شديدة الروعة والإتقان أبدعت كريمة فى مسرحة الرقص المعاصر، حكت المخرجة والمصممة بالرقص والدراما كل معنى وكل تساؤل دار فى خلدها وذهنها عن مصير تلك الفتاة البائسة بعد رحيل أهلها، وعن حياة الجدب والضنك التى عاشتها بينهم، وهى أحد الشهود على تلك الجرائم وعلى الأوضاع المزرية التى عانت منها تلك العائلة من احتراف الدعارة وسرقة وخطف نساء كنوع من التعويض النفسى عما حرمت منه كلتاهما، وكأن «ريا وسكينة» أرادتا بهذه الجرائم توجيه صرخة عقاب للمجتمع الذى حرمهما متعة الحياة وقررتا الحصول على هذه المتعة على طريقتهما الخاصة بالانتقام من كل امرأة تعيش فى رغد ودعة! تبدأ بديعة فاطمة الشبراوى بالحكى مع حفار القبور هانى حسن الذى قدمه بحرفة فنية عالية، حيث يطوف هائمًا على وجهه متأملًا جثث الموتى بعد لوحة جمالية راقصة لمومياوات مجموعة من النساء حملتهن أيدى الرجال للقذف بهن فى القبور، يعيش هذا الرجل فى عزلة انحنى ظهره من شدة ما حفر ومال وتأمل «نبش القبور» يسير هائمًا بمصباحه، وتأتى بديعة لتشهد أمامه على جثث الضحايا، ثم نرى مزجًا آخر فى تتابع مشاهد الرقص بـ«ملايات اللف» لنساء بحرى بالإسكندرية ورقصة الصيادين وتقطيع بين الرقص والحكى يشبه مونتاج السينما فى الانتقال من مشاهد الدراما، التى تبوح فيها كل من ريا بالنقمة على واقعها، وتبدأ فى سرد جانب وشكل من أشكال حياتها ثم تتبعها شقيقتها «سكينة» ومشاهد الرقص، وُفقت بدير بمساعدة فريقها هذه المرة فى تقديم عمل فنى يحمل خصوصية واستثناء فى أسلوب الطرح وتوصيل المعنى والرؤية النسوية التى تكشف عن جانب آخر من واقع هذا العالم الغامض؛ جانب ربما لم ينتبه إليه كثيرون بتشريح هذه البيئة الاجتماعية القاهرية، ثم مشهد آخر بديع لتراكم جثث الموتى تعلوهن «ريا وسكينة» وارتكاب بديعة لجريمة قتل حفار القبور وكأنها تتخلص ممن باحت له بسرها، ثم ينهى العرض هذه النهاية البديعة التى توحى بأن هذه الفتاة قد تشكل امتدادًا لعالم الجريمة من شدة ما تعرضت له من تشوه وظلم، جمع العرض بين تصميم رقصات من التراث الشعبى السكندرى بالموسيقى والتعبير الحركى واختيار الأغانى من عهد قديم، إلى جانب توظيف فرقة الزار التى تمت إضافتها فى هذه النسخة والتى تستقبل الجمهور من أمام أبواب المسرح قبل الشروع فى الدخول إلى القاعة ومتابعة العرض، ثم مشاركة الفريق لمشهد قتل النساء وخطفهن والإلقاء بهن، لم يكتف الفريق بالتفوق والتفرد فى الأداء الحركى الفردى والجماعى خاصة بطلتى العرض «ريا» نوران محمد، ونورهان جمال فى دور سكينة، بينما غلف العمل بحالة من الحرص على الأداء التمثيلى حتى من الراقصين غير المتكلمين، مما انتقل بفريق فرسان الشرق من مجرد فرقة تحترف تقديم شكل من أشكال الرقص المعاصر إلى مسرحة هذا الرقص والانفراد بنوع فنى يجمع كل أشكال الفنون يرتقى بالمشاهد إلى مستوى آخر من التذوق والمتعة.