العبور الثانى للدولة المصرية
مثّلت ثورة 30 يونيو لحظة العبور الثانية للدولة المصرية نحو الحياة، ليس فقط على المستوى السياسي، بل على مستوى استعادة الدولة المصرية بكامل مكوناتها ومؤسساتها ووضعها على مسار وطنى واضح وقوي. لم تكن مجرد احتجاج شعبي، بل كانت تأسيسًا جديدًا لوطن حاولت قوى الظلام اختطافه وتفكيكه من الداخل عبر أدوات وجماعات مرتبطة عضويًا بمشروع تآمرى دولى هدفه تفكيك المنطقة العربية وتقويض فكرة الدولة الوطنية.
جاءت 30 يونيو كحائط صد تاريخى أقامه الشعب المصرى بوعيه، بمساندة جيشه الوطني، ليعلن نهاية مرحلة الاستبداد والفوضى والوصاية، وبداية مرحلة البناء الحقيقي. لقد كانت تلك الثورة الشعبية نقطة ارتكاز أساسية، استندت إليها عملية إعادة بناء الدولة بكل مستوياتها، لأنها قطعت الطريق على مخطط واسع كان يهدف إلى تمزيق النسيج الوطنى من خلال فاعلين غير مباشرين تم توظيفهم كأدوات للنفاذ إلى عمق القرار المصري.
القوات المسلحة المصرية، التى لطالما كانت الحصن الحصين للدولة، لم تكن بعيدة عن هذه اللحظة المفصلية، بل كانت فى قلبها. كانت دائمًا تعمل على رفع كفاءتها القتالية ومواكبة التطورات الحديثة، ولكن بعد 30 يونيو تحوّلت هذه الجهود إلى مسار استراتيجى واضح ومتكامل، فلولا صلابة الجيش وموقفه التاريخى إلى جانب الشعب، ما كان لمصر أن تتماسك فى تلك اللحظة، ولا أن تنجح فى تجاوز عاصفة الفوضى، ومن هنا يمكن القول إن بناء الدولة الجديدة انطلق من هذه اللحظة الفارقة، عندما اجتمع شعب واعٍ بجيش قوى بقيادة سياسية مدركة لطبيعة المرحلة ومتطلباتها.
بدأت ملامح التحول الجذرى تظهر بوضوح مع انطلاق خطة «بدر 2014»، التى تمثل نقطة الانطلاق الحقيقية لتطوير وتحديث القوات المسلحة، وبلغت ذروتها فى “قادر 2020”. وخلال هذه الفترة، تم تنفيذ سلسلة من التحركات الاستراتيجية غير المسبوقة، منها إدخال طائرات الرافال الفرنسية، وحاملات المروحيات “ميسترال”، وتحديث أسلحة الدفاع الجوي، وبناء القواعد العسكرية الحديثة، وتطوير أساليب التدريب والجاهزية، ورفع مستوى الكفاءة العملياتية واللوجستية. هذا التطوير لم يكن مجرد استعراض قوى، بل كان ضرورة لحماية الأمن القومى فى محيط إقليمى ودولى شديد التقلّب، وملىء بالتحديات المركّبة التى تستهدف الدولة المصرية من أكثر من اتجاه.
لقد مكّنت هذه الاستراتيجية القوات المسلحة من أداء دورها بكفاءة عالية، ليس فقط فى الدفاع عن الحدود، بل فى تحصين الداخل، واحتواء محاولات الاختراق، والتصدى للأخطار الناعمة والخشنة على السواء. أصبحت مصر بفضل هذا البناء المتين رقمًا مهمًا فى معادلة الإقليم، ولاعبًا محوريًا فى صياغة التحالفات وإعادة تشكيل التوازنات الاستراتيجية، الجيش المصرى، الذى استعاد مكانته بجهد وإرادة وتخطيط، بات أحد الأعمدة الرئيسية التى تقوم عليها الدولة الحديثة، دولة المؤسسات القوية، والسيادة الكاملة، والإرادة المستقلة.
إن ما جرى فى 30 يونيو ليس لحظة مضت، بل مشروع مستمر لبناء وطن عصري، قادر على مواجهة التحديات، متكامل الأركان، يستند إلى شعب واعٍ، وجيش محترف، وقيادة وطنية تقرأ الواقع وتستشرف المستقبل. ولذلك يمكن القول، بكل ثقة، إن ثورة 30 يونيو لم تكن نهاية مرحلة، بل بداية حياة.