الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«السايكلوب».. رواية اللعب مع الخيال

«السايكلوب».. رواية اللعب مع الخيال

كانت جوليا كريستيفا تشير إلى أن النص الأدبى يعد جماعًا لنصوص سابقة أفاد منها الكاتب، وربما يخلق إبراهيم عبدالمجيد التناص على نحو مختلف حين يحيل إلى شخوصه السابقين فى روايات مختلفة تسبق روايته «السايكلوب»، والصادرة عن دار «مسكيلياني» للنشر، وعبر لعبة من تبادل الأدوار بين المؤلف الضمنى للعمل داخل النص سامح عبدالخالق، وصابر سعيد المروى عنه المركزى والذى يستعيده عبدالمجيد من روايته الشهيرة «هنا القاهرة»، ومعه «سعيد صابر» رفيقه فى الارتحال القلق داخل أجواء المدينة المغوية فى السبعينيات من القرن الماضى حيث السياقات المتشابكة والتحولات العاصفة التى يجيد الروائى التعبير عنها جماليا فى معظم نصوصه السردية، وتعد روايتا «الإسكندرية فى غيمة» و»هنا القاهرة» نموذجين دالين فى هذا السياق. ومن ثم يستدعى عبدالمجيد شخصيته الأثيرة «يارا» فى «الإسكندرية فى غيمة» والتى تشير إلى الحلم المقموع الذى يتم حصاره بل ووأده فى نهاية الرواية.



ستمضى الدلالة السردية طويلا فى رواية السايكلوب نحو عشرات الدلالات البارزة التى تحيل على عالم على شفا العبث والجنون. عالم يتداعى يطبق عليه «السايكلوب» الوحش الخرافى صاحب العين الواحدة والمتربص بكل ما هو حر وإنسانى وجميل.

 يكتب عبدالمجيد روايته مشغولا بشخوصه وتقنياته فلا يكتفى برسم الملامح المعتادة للشخوص سواء الجسدية أو النفسية أو الاجتماعية، لكنه يغوص فيما هو أبعد، حيث الداخل الثرى والمعقد للإنسان الذى صار نهبا للقمع، والاستبداد المجتمعى الذى تخلقه سطوة الممارسة اليومية والعرف الاجتماعى والاستبداد باسم المقدس الذى كرست له الجماعات المتشددة طويلًا. 

تتعدد مداخل القراءة لرواية السايكلوب ويقدم من خلالها عبدالمجيد إمكانية ضافية للمدلول السردى متعدد الوجوه. فمن زاوية التناص مع الأعمال السابقة للكاتب واستحضار شخوص من عالمه الثرى المترع بالحكاية فى «أداجيو» و»هنا القاهرة» و»لا أحد ينام فى الإسكندرية» و»الإسكندرية فى غيمة» إلى رواية التحولات الاجتماعية التى تساءل الراهن عبر تفكيك بنياته وتأمله وليس عبر مقارنته بما كان، ويتم ذلك عبر منحى التفاصيل الصغيرة الذى تزخر به الرواية المكتنزة بالأحداث والمرويات. 

وتتكئ الرواية فى بنيتها الكلية على ما أسميته ببنية المساءلة حيث وضع الأشياء جميعها موضع المراجعة المستمرة من زاوية عين الكاميرا التى يتبادل موقعها والإمساك بها سامح عبدالخالق المؤلف الضمنى داخل الرواية، وسعيد صابر الخارج من رحم الموت إلى جحيم الحياة وعنفها اللانهائي، إلى تعليقات السارد الرئيسى ذاته الذى ينظم الحدث الروائى ويتوسط بين السرد والشخوص والمتلقين.

 ثمة جدل بين السياسى والجمالى فى رواية «السايكلوب» ليس من منظور أيديولوجى زاعق ولكن من منظور اللعب الفنى مع التحولات ومآلاتها المتعددة.

تبدو لعبة الموتى والأحياء، والأشباح والحقيقيين، والوجود والعدم إحالة على سياق مستقر من أدبيات الكتابة فى العالم، يمكنك أن تستدعى أشباح شكسبير وشخصيات برانديللو التى تبحث عن مؤلف لكن ثمة خصوصية جمالية هنا فى الكتابة لدى إبراهيم عبدالمجيد فى الاتكاء على تراث الكتابة المشرقية فيما يتصل بعوالم الأشباح والعفاريت وفكرة الخلق الكتابى المستمدة من تصورات العرب حول فكرتى الوحى والإلهام الشعرى وبما يحيلك إلى وادى عبقر الذى تعاطت معه المخيلة العربية القديمة بوصفه معينا لا ينضب للشعر والإلهام به. 

وتتردد صدى هذه المقولات بأكثر من صيغة داخل الرواية وفى مفتتحها تحديدا حيث استنهاض تلك القدرة الفريدة على الحلم والمعنى والتخييل لدى الكاتب وبما يتسق مع جملة التصورات الفكرية والجمالية الحاكمة لنظرة عبدالمجيد نفسه للكتابة.

يجدل النص بين الأسطورى والواقعى فى مقاطع عديدة داخله، ويحاول ردم الهوة بين الخيال والواقع، الفنتازيا والحقيقة، عبر لعبة التخييل الروائى التى يعتمد عليها منذ الإهداء والتصدير والاستهلال، وحتى المختتم الروائى الذى يأتى واضعا قدما فى الفنتازيا وأخرى فى الواقع أيضا. فالسايكلوب هنا وحش خرافى مشوه، ممثل الأسطورة وسليل تفاعلاتها فى الميثولوجيا اليونانية التى انفتح النص عليها كثيرا كجزء أصيل من تراث الحكاية التخييلية فى العالم يهاجم مجموعة من المهاجرين إلى إيطاليا محاصرين بضغط الواقع الاجتماعي. وسيكون التخييل بطاقاته الإيحائية والبصرية واللغوية والنفسية واللاشعورية مركزا فى النص والكتابة. خيال نزق يرمى إلى جعل المتلقى يقظا داخل الحكاية الموزعة على عشرات الحكايات والتى تتبنى آلية التوالد الحكائي، فمن رحم كل حكاية تتناسل حكاية أخرى عن البهى والمهدى والنسوة الأربع، عن سعيد صابر وصابر سعيد، عن يارا وسامح عبدالخالق وصفاء الأولى والثانية.

يستخدم عبدالمجيد ما يسمى بالعقد السردى بينه وبين متلقيه حيث يحيل إلى نصوص سابقة له كما أشرت، وفى نفس الوقت يكمل ما بدأه، وقد يتمم الحكاية الروائية عبر منطق آخر لذلك الذى اختاره من قبيل التورط العاطفى لسامح عبدالخالق مع صفاء الثانية التى أهملها من قبل.

تتعدد منظورات السرد فى الرواية من الحكى بضمير الغائب كما فى المفتتح، ثم الحكى بضمير المتكلم فى المقطع الأول، ويبنى الكاتب مقاطعه على تقنية الجملة المدهشة ولا يكتفى باستخدامها فى نهايات الفصول السردية، ويوظف اللغة بمستوياتها المختلفة، محتفيا برشاقة الجملة السردية، ومداعبتها الوجدان الشعبى « شعرت بالضيق لأنه نقلنى معه إلى هنا فى لحظة، فلم تتح لى رؤية الشوارع والناس. تذكرت أن من يأتى هنا مشيا ملزم بأن يعبر جسر قصر النيل ويرى الأحبة اثنين اثنين يقفون ووجوههم إلى المياه». 

 ترتبط العناصر البنائية فى النص بالتخييل. فالمكان يتوزع بين المقابر والشوارع والمدن والبحر وسفينة علاء الدين والزمن يتقدم بالبشر صعودا وهبوطا وفقا لمنطق الحكاية الفنية فسامح يعود شابا مع يارا ثم يرتد شيخا كبيرا بعدها وهكذا.  ثمة كتابة مختلفة هنا، وثمة مشروع يتجدد باستمرار عركته التجربة الحياتية والخبرة الجمالية والتماهى مع الشخوص، والأهم مطاردة الخيال فى كل شيء، وهذا ما يبقى كتابة إبراهيم عبدالمجيد شابة فتية، نابضة بالحيوية والمتعة والجمال.