الأربعاء 26 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

ذا النون المصرى(1)




مع مرور الأيام وتعاقب الزمان يظل التاريخ يحمل لمصر فكرها وفقهها الوسطى الذى أنارت به الدنيا فكانت مهدا للوسطية من خلال فقائها الذين حملوا صحيح الدين ونشروا وسطيته، حتى أصبحت مصر مهدا لتلك الوسطية، رغم المحاولات التى تتم من قبل جماعات وتيارات لتشويه الفكر الدينى المصرى إلا أن جميعها تبوء بالفشل بفضل فقهاء الوسطية المصريين الذين جعلوا من بلدهم أبية على التشدد والتطرف
 
ثوبان بن إبراهيم، كنيته «أبو الفيض» ولقبه «ذو النون»، أحد أعلام التصوف فى القرن الثالث الهجرى ومن المحدثى الفقهاء. ولد فى أخميم فى مصر سنة 179 هـ الموافق 796م وتوفى سنة 245 هـ الموافق 859م.
 
روى الحديث عن مالك بن أنس والليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة. درس على علماء عديدين وسافر إلى سورية والحجاز. يذكر القشيرى فى رسالته أنه أول من عرف التوحيد بالمعنى الصوفى وأنه أول من وضعتعريفات للوجد والسماع والمقامات والأحوال.
اتهمه معاصروه بالزندقة وحاولوا الإيقاع بينه وبين الخليفة المتوكل واصفينه بأنه «أحدث علمًا لم تتكلم به الصحابة»، فاستجلبه المتوكل إليه فى بغداد سنة 829م، ويقال أنه لما دخل عليه وعظه فبكى، فرده إلى مصر مكرمًا.
 
عرف عن الزاهد ذو النون المصرى شدة ورعه وزهده وقد ترجم له ابن كثير فى البداية والنهاية فقال عنه: (ثوبان بن إبراهيم، وقيل: ابن الفيض بن إبراهيم، أبو الفيض المصري، أحد مشايخ المشهورين، وقد ترجمه ابن خلكان فى الوفيات، وذكر شيئا من فضائله وأحواله، وأرخ وفاته فى هذه السنة، وقيل: فى التى بعدها، وقيل: فى سنة ثمان وأربعين ومائتين، فالله اعلموهو معدود فى جملة من روى الموطأ عن مالك، وذكره ابن يونس فى تاريخ مصر، وقال: كان أبوه نوبيا، وقيل: إنه كان من أهل أخميم، وكان حكيما فصيحا.
 
ونقل الامام ابوعبد الرحمن السلمى فى طبقاتالصوفية عن حكم ذو النون المصرى رضى الله عنه فقال:
 
اخبرنا الحسنُ بنُ رَشِيق، إجازةً، قال: حدثنا علىُّ بنُ يعقوب بن سُوَيد الورَّاق، حدثنا محمدُ بنُ إبراهيم البغدادي، حدثنا محمدُ بنُ سعيدٍ الخُوارَزْمى، قال: سمعتُ ذا النون - وسئل عن المحبَّة - قال: « أن تُحبَّ ما أحَبَّ اللهُ؛ وتبْغضَ ما أبغض اللهُ؛ وتفعلَ الخيرَ كلَّه؛ وترفضَ كلَّ ما يشغَلُ عن الله؛ وألا تخافَ فى اللهِ لومه لائم؛ مع العطْفِ للمؤمنين، والغِلْظة عَلَى الْكافرين؛ واتِّباع رسولِ الله، صلى الله عليه وسلم، فى الدِّين.
 
وروى ذا النون المصرى عن: مالك، والليث، وابن لهيعة، وفضيل بن عياض، وسلم الخواص، وسفيان بن عيينة، وطائفة .
 
وعنه: أحمد بن صبيح الفيومي، وربيعة بن محمد الطائي، ورضوان بن مُحَيميد، وحسن بن مصعب، والجنيد بن محمد الزاهد، ومقدام بن داود الرعيني، وآخرون .
 
وقلَّ ما روى من الحديث، ولا كان يتقنه . قيل: إنه من موالى قريش، وكان أبوه نوبيا .
 
وقال الدارقطني: روى عن مالك أحاديث فيها نظر . وكان واعظا .
 
قال ابن يونس: كان عالما فصيحا حكيما . توفى فى ذى القعدة سنة خمس وأربعين ومائتين .
 
وقال السلمي: حملوه على البريد من مصر إلى المتوكل ليعظه فى سنة 244 وكان إذا ذكر بين يدى المتوكل أهل الورع، بكى .
 
وقال يوسف بن أحمد البغدادي: كان أهل ناحيته يسمونه الزنديق .
 
فلما مات، أظلت الطير جنازته، فاحترموا بعد قبره .
 
عن أيوب مؤدب ذى النون، قال: جاء أصحاب المطالب ذا النون، فخرج معهم إلى قفظ وهو شاب، فحفروا قبرا، فوجدوا لوحا فيه اسم الله الأعظم، فأخذه ذو النون، وسلم إليهم ما وجدوا .
قال يوسف بن الحسين الرازي: حضرت ذا النون، فقيل له: يا أبا الفيض، ما كان سبب توبتك ؟ قال: نمت فى الصحراء، ففتحت عينى فإذا قنبرة عمياء سقطت من وكر، فانشقت الأرض، فخرج منها سُكُرُّجَتان ذهب وفضة، فى إحداهما سمسم، وفى الأخرى ماء، فأكلت وشربت . فقلت: حسبي، فتبت ولزمت الباب إلى أن قبلني.
 
قال السلمى فى «محن الصوفية»: ذو النون أول من تكلم ببلدته وفى . ترتيب الأحوال، ومقامات الأولياء، فأنكر عليه عبد الله بن عبد الحكم، وهجره علماء مصر . وشاع أنه أحدث علما لم يتكلم فيه السلف، وهجروه حتى رموه بالزندقة . فقال أخوه: إنهم يقولون: انك زنديق . فقال: ومـا لـى سـوى الإطـراق والصمـت حيلة
 
ووضعـى كـفى تحـت خــدى وتذكـارى
 
قال: وقال محمد بن الفرخي: كنت مع ذى النون فى زورق، فمر بنا زوررق آخر، فقيل لذى النون: إن هؤلاء يمرون إلى السلطان، يشهدون عليك بالكفر . فقال: اللهم إن كانوا كاذبين، فغرقهم، فانقلب الزورق، وغرقوا . فقلت له: فما بال الملاح ؟ قال: لم حملهم وهو يعلم قصدهم ؟ ولأن يقفوا بين يدى الله غرقى خير لهم من أن يقفوا شهود زور، ثم انتفض وتغير، وقال: وعزتك لا أدعو على أحد بعدها.
 
ثم دعاه أمير مصر، وسأله عن اعتقاده، فتكلم، فرضى أمره . وطلبه المتوكل، فلما سمع كلامه، وَلِعَ به وأحبَّه . وكان يقول: إذا ذكر الصالحون، فحيَّ هلا بذى النون.
 
 قال على بن حاتم: سمعت ذا النون، يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق .
 
وقال يوسف بن الحسين: سمعت ذا النون، يقول: مهما تصور فى وهمك، فالله بخلاف ذلك، وسمعته يقول: الاستغفار جامع لمعان: أولهما: الندم على ما مضى. الثاني: العزم على الترك. الثالث: أداء ما ضيعت من فرض لله. الرابع: رد المظالم فى الأموال والأعراض والمصالحة عليها . الخامس: إذابة كل لحم ودم نبت على الحرام . السادس: إذاقة ألم الطاعة كما وجدت حلاوة المعصية .
وعن عمرو بن السرح: قلت لذى النون: كيف خلصت من المتوكل، وقد أمر بقتلك ؟ قال: لما أوصلنى الغلام، قلت فى نفسي: يا من ليس فى البحار قطرات، ولا فى ديلج الرياح ديلجات، ولا فى الأرض خبيئات، ولا فى القلوب خطرات، إلا وهى عليك دليلات، ولك شاهدات، وبربوبيتك معترفات، وفى قدرتك متحيرات، فبالقدرة التى تُجيرُ بها من فى الأرضين والسماوات إلا صليت على محمد وعلى آل محمد، وأخذت قلبه عني، فقام المتوكل يخطو حتى اعتنقني، ثم قال: أتعبناك يا أبا الفيض .
 
وقال يوسف بن الحسين: حضرت مع ذى النون مجلس المتوكل، وكان مولعا به، يفضله على الزهاد، فقال: صف لى أولياء الله . قال: يا أمير المؤمنين، هم قوم ألبسهم الله النور الساطع من محبته، وجللهم بالبهاء من إرادة كرامته، ووضع على مفارقهم تيجان مسرته . فذكر كلاما طويلا .
 
وقد استوفى ابن عساكر أحوال ذى النون فى «تاريخه»، وأبو نعيم فى «الحلية» . ومن كلامه: العارف لا يلتزم حالة واحدة ؛ بل يلتزم أمر ربه فى الحالات كلها .
 
أرَّخ عبيد الله بن سعيد بن عفير وفاته، كما مر، فى سنة خمس وأربعين ومائتين .
 
قصة العقرب
 
وكان ذا النون المصرى يجمع الناس ويعلّمهم الخير لينقذهم مِن الشر والحرام، وذات يوم خرج إلى شاطئ نهر النيل ليغسل ثيابه، وبينما هو يستعد لذلك رأى بطرف عينه عقربًا كبيرًا متقدمًا نحو الشاطئ ففزع منه واستعاذ بالله مِن شَرِّه لأن لدغته مؤذية وقاتلة أحيانًا، فتوارى ذو النون خلف شجرة ليرى ماذا سيفعل هذا العقرب توقف العقرب على الشاطئ فإذ بضفدع كبير يخرج من الماء ويقترب منه، فصعد العقرب على ظهره وسبح به وسط دهشة ذى النون الذى خرج من خلف الشجرة مستغربًا مما يحصل، فعلم أن فى الأمر قصة ما، فخلع رداءه ونزل إلى الماء ولحق بهما وصل الضفدع والعقرب على ظهره إلى الضفة الأخرى، فلما وصلا إلى الشاطئ نزل العقرب ومشى مندفعًا إلى الأمام، وفى هذا الوقت كان ذو النون قد وصل إلى الشاطئ فلحق بالعقرب كان الجانب الآخر للنهر قد نبتت على ضفافه أشجار خضراء جميلة وعلى الأرض أعشاب طرية يانعة وأزهار ملونة تعجبالناظرين.
 
ومشى ذو النون يتبع العقرب حتى وصل إلى شجرة كثيرة الأغصان وافرة الظلال هناك تحت الشجرة كان شابّ يستلقِى نائمًا وفى يده زجاجة خمر قد فرغت ورائحتها تفوح فى المكان فإذ بالعقرب يقترب منه اقترابًا شديدًا
 
فاستغرب ذو النون كيف أتى هذا العقرب من الجانب الآخر إلى هنا ليلدغ الشّاب وفى هذه اللحظة خرجت حيّة كبيرة من بين أغصان تلك الشجرة متّجهة نحو الشّاب كان ذو النون يراقب المنظر وهو يحاول العثور على خشبة
 
ليقتل بها الحيّة والعقرب، فإذا بالعقرب يقفز على رأس الحيّة فيلدغها فتقع صريعة ثم يعود إلى الشاطئ
 
ويصعد على ظهر الضفدع الذى كان ينتظره ويعودان معًا إلى الجانب الأول هنا استيقظ الشّاب وأخبره ذو النون بما حصل، فتاب الشّاب إلى الله تعالى بعدما علم بهذا الأمر العجيب.