الخميس 29 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

دمجت بين الرؤية السياسية والفنية فى قالب الواقعية الناقدة

رواية عرايا فى أسطنبول.. وهم الغربة والعدالة

فى برد اسطنبول القارس لا تعدم أن ترى عرايا فى زحام شوارعها من المدعين والأفاقين، من ضلت الرحمة طريق قلوبهم فأستقووا على أزواجهن بلا شفقة للتنفيس عن عللهم النفسية، استبدت بهم القوامة ووظفوها لفهمهم المتحجر فى خضم الأزمات المتلاحقة، فعانت أزواجهن من هجر الرجال وصلافتهم، بعد أن تبرجت لهم الغربة وفتحت لهم ذراعيها فسقطوا صرعى إغوائها.. هكذا وصف الكاتب على الصاوى حال النسوة المغتربات فى روايته «عرايا فى اسطنبول» وما يتعرضن له من قهر على يد شركاء الحياة -أزواجهن- فى غربة على حد وصفه تقهر الرجال فكيف بالنساء الضحايا الحقيقين.



رواية «عرايا فى إسطنبول» هى ثانى إصدار روائى للكاتب على الصاوى بعد رواية «إسطنبول 2020.. رواية بين دولتين» وهى تصدر عن دار البحرينية المصرية للتوزيع والنشر، والتى تدور أحداثها بين مصر وإسطنبول، وقبلهما مجموعة قصصية بعنوان ترانيم محب، وكتاب صرخة قلم فى الأدب السياسى. 

الرواية تستعرض ملحمة إنسانية وسياسية واجتماعية خرجت من رحم الأوساط السياسية فى إسطنبول مدينة المتناقضات، فدمجت الرواية بين الرؤية السياسية والفنية فى قالب الواقعية الناقدة، التى تكشف السلبيات وأوجه القصور فى أوساط تدعى الوطنية والقداسة، اقترفوا من الفساد والمظالم بحق الدين والوطن الكثير تحت شعارات المظلومية والاضطهاد، فيقول بطل الرواية مؤمن الزيات لأحد الشخصيات السياسية فى الرواية: 

قد تكون هناك قضايا عادلة فى الحياة، لكن أسوأ ما تواجه تلك القضايا من عراقيل هو أن يكون القائمون عليها خونة وعملاء، ما يتسبب فى طول محنتها وغربتها فى ديوان العدالة، فالمال إذا حضر هوى بكل مبدأ وفضيلة؛ ومَنْ تراه اكتنز فى شدة نزلت بساحة قوم فاعلم أنه لِص، وكلما زاد عدد اللصوص مترًا طالت المحنة ذراعًا واشتدَّ بأسها باعًا.

وحين تطول القضية ويخفت بريقها يطفو الصعاليك ويملك السفهاء ومَنْ كانت أخلاقهم على شاكلة المرحلة، كالوصولى والمتملق وعديم الشرف وأشباه الأميين، إن علة الجسد يا راغب تكمن داخل الجسم وليس فى خارجه، لكن رغم ذلك سيذهب الزبد جفاء وما ينفع الناس وحده سيمكث فى الأرض، فلا يغرنكم بريق المال فيومًا ما سيصيبه الصدأ ويصيبكم معه، أما واللهِ إنكم فئةٌ لا تُعَدُّ إلا فى مصائب الوطن وما ينزل عليه من البلاء. 

الرواية متعددة الرؤى والأصوات المختلفة، ألبس الكاتب الشخصيات لباسا شفافا يكشف أكثر مما يستر من حقائق خفيّة، وحجم التناقض الفكرى والإيديولوجى وحالة الانفصام الشخصى بين واقع الشخصيات الظلامى وسلوكها السياسى أمام العلن. 

الرواية تطرقت إلى عالم النساء فقدمت أكثر من نموذج مختلف بين المرأة الراسخة على المبدأ رغم ما يحيطها من صعوبات فى الغربة، بعد أن وقعت فى فخ سياسى فاسد اتخذها كسُلّم للوصول إلى هدفه، ونموذج آخر لامرأة لم تصمد أمام مشاكلها فى الحياة وسوء حظها الاجتماعى لتسقط فيما بعد فى فخ السياسة الملوث وتتخذ من أنوثتها قنطرة توصلها إلى القمة، وإمرأة أخرى تقوم بدور وسيط تجمع بين الذئب والضحية. 

كما سلطت الرواية الضوء على البعد الإنسانى والقيمى فى حياة البطل وكيف استطاع أن يراقب عالم إسطنبول الضبابى ويسبر أغواره، وصبره على الالتحام معه ليكشف ما وراء الأكمة، وكيف كانت علاقته بالشاب آيوب صابر ضحية الأفكار الخاطئة، والتى كان يظن أنها طوق نجاته ليتضح بعد ذلك أنها كانت سببا فى هلاكه. 

تكشف الرواية خفايا عالم الكبار فى السياسة وخطورة اللعب معهم وحجم الفساد المستشرى فيهم، وصراع المصالح الصامت بينهم، يساومون على أى شىء فى سبيل المصلحة، يظهرون أمام الناس بمظهر البراءة والعفة، وعلى الجانب الآخر ينفثون حياة أخرى فى الظلام. 

 فيقول الكاتب على لسان نبيلة الدرينى إحدىلشخصيات المثيرة للجدل فى الرواية: ما أحمقنى حين ضيعت سنوات من عمرى فى البؤس بين حيطان الفقر والرضا بالنصيب، فى حين أن هناك نصيبًا آخر ما كنت أعلم عنه شيئًا، نصيب تصنعه الأزمات بعيدًا عن مراقبة المجتمع وعبث الأقدار، تكون أنت فيه السيد المُدلل، وسط مجتمع سطحى مُترهل يتصدره شخصيات منقسمة على نفسها نصفين، نصفًا أمام الشاشات يرتدى كرافتات شيك ويلوى لسانه بعبارات مُنمقة وشعارات مستهلكة، والنصف الآخر ينفث حياة أخرى فى الظلام يتعرَّى فيها مما يتشدق به فى النهار، فتعود النفس إلى أصلها وصورتها الحقيقية، عارية بلا مساحيق تُجمِّلها أو شعارات تسترها.

تسير الرواية فى مسارات متعددة، مسار إنسانى وفكرى ومسار آخر عاطفى واجتماعى، سرد قصصى ينقل القارئ من مشهد تراجيدى إلى آخر عاطفى وآخر سياسى ثم آخر إنسانى فى انتقال سلس لا يصاولك فيه كلل ولا يعتريك فى قراءته ملل.