إعادة طباعة «البحر المتوسط فى القرن الـ14 قيام وسقوط إمبراطوريات»

الهام رفعت
الإسكندرية _الهام رفعت
ابن خلدون أحد اشهر الفلاسفة وعلماء الاجتماع وهو نتاج طبيعى للحضارة الإسلامية العربية، التى توهجت وبلغت ذروتها فى القرن الرابع عشر، ونموذج للعولمة والكونية التى نعايشها الآن، فقد تخطى الستار الزمنى الذى يفصله عنا وأحدث خرقا أبستمولوجيا فيه وكأنه ينتمى إلى عصرنا هذا ويبحث لنا عن حلول لقضايانا كمفكر حداثى.
ورغم رحيل العلامة العربى المنحدر من أصول أندلسية- منذ 6 قرون – إلا أن شعوب العالم تتزاحم للاحتفاء به عرفانا بما خلفته أطروحته الفلسفية من كنوز لن تجد من يثمنها ويجزل لها الشكر المستحق. لقد أثبت أنه عالم الاجتماع الأول بلا منافس وشهدت بذلك الماركسية المعاصرة . بل هو أهم مؤرخ؛ فقد أصدر أحكامه فى الخبرات البشرية التى عايشها، وانتهج نهجاً علمياً فى التصدى للتاريخ البشرى عاكفا على بحث العوامل الموضوعية لتقدم المجتمعات. لقد حاولت أعمال أدبية وأكاديمية وتراجم متنوعة تناول الأفكار الخلدونية بيد أن هذا الكتاب يعد دعوة للتمحيص فى أفكار هذا العبقرى من خلال التركيز على ابن خلدون الإنسان وتحليل أعماله التى اختلطت فيها فلسفة التاريخ بفلسفة المعرفة وفلسفة الحضارة.
يأخذنا هذا السفر النفيس بما يشتمل عليه من مقالات فى رحلة تاريخية عبر الزمان والمكان .. وبالأخص إلى القرن الرابع عشر مستعرضا أهم الأحداث والظروف السياسية التى عاصرها ابن خلدون، وما كان يعترى حوض البحر المتوسط من تقلبات سياسية واجتماعية واقتصادية كانت المخاض لولادة عصرنا الحديث . ولعل الفكر الخلدونى كان ومضات النور التى قهرت السديم وانبثقت عنه كل الحركات الإصلاحية العربية والإسلامية.
فقد انكب ابن خلدون على دراسة الظواهر الاجتماعية من خلال اختلاطه بشعوب البحر المتوسط، وكشف القوانين التى تخضع لها الظواهر الاجتماعية الكبرى، سواء فى نشأتها أو فى نموها وتطورها. وقد تجلى فكر ابن خلدون في «المقدمة» التى ألمع فيها بمغالط المؤرخين وتحدث فيها عن فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه، معلنا تأسيس علم جديد أطلق عليه علم العمران، ورسخ مبدأ المطابقة أى التأكد من إمكانية أو استحالة وقوع حدث معين فمنطق الضرورة الاجتماعية لكل مرحلة تاريخية هو الذى يفترض قبول خبر متوارث أو رفضه، أمّا الأحداث الفردية الخارقة التى قد تتجاوز هذه الضرورة فهى أمر عارض لا يقدم صورة عن مسيرة المجتمع بأكمله كما دافع عن الدولة المركزية. وانتبه لأهمية المجتمعات البدوية وأهميتها للإنسانية، وقارن بينها وبين المجتمعات الحضرية واعتبرها كل منهما شكلاً من أشكال العمران، وقد لخص كل ذلك فى مفهوم العصبية.
تأتى ترجمة هذا الكتاب إلى لغة الضاد، لتبعث الإرث المشترك للعرب و الأسبان حيث ينفض الغبار عن عدة جوانب من حياة ابن خلدون ومحيطه المكانى فى حوض البحر المتوسط خلال القرن الرابع عشر ؛ أكثر القرون تحولاً، نحو التفكك والاضمحلال فى العالم العربي.. وتحول وازدهار نحو النهوض والانبعاث فى العالم الغربى، أى تحول وانتقال بين ضفتى المتوسط، المكان والمجال الذى تنقل من خلاله ابن خلدون ما بين تونس والمغرب والأندلس ومصر.. صدر هذا الكتاب أول ما صدر فى إسبانيا ليوثق لمعرض أقيم تحت رعاية الملك خوان كارلوس الأول والملكة صوفيا ، تحت عنوان «ابن خلدون.. البحر المتوسط فى القرن الرابع عشر، قيام وسقوط إمبراطوريات» وذلك على أرض القصر المدجن أو القصر الملكى فى إشبيلية، ما بين شهرى مايو وسبتمبر 2006.. يجمع الكتاب بين طياته 50 مقالاً علمياً فريداً تمضى بنا إلى عصر هذا العلامة المنحدر من أصول أندلسية بهدف تحليل الجوانب الإيجابية والسلبية بين الشرق والغرب وصولاً إلى خلاصة مؤداها أن الأندلس بما تحمله من عبق الخبرة تمثل السيناريو المثل لتعزيز الحوار بين الحضارات، بعيداً عن دعوات الفرقة والتنابذ التى تسعى للتفريق بين بنى البشر. وقد توجت هذه المقالات بمجموعة من الوثائق وصور المقتنيات ذات القيمة الفنية والتاريخية.
لقد حاول هذا الكتاب الإجابة على العديد من الأسئلة المتشابكة، التى توصى بها سيرة حياة وأعمال مؤلف كتاب «المقدمة» فى ذكرى مرور ستة قرون على وفاته مبرزاً الدروس المستفادة من خبرته التاريخية، وحاول التأكيد على المقاربة الإنسانية التى كانت من سمات العلامة بن خلدون فى رؤيته للأحداث وفى التدليل عليها بالبرهان؛ وذلك من خلال 9 أجزاء هى: ابن خلدون وعصره، القرن الرابع عشر: الزمان والمكان، أحوال الدولة، والحروب والدبلوماسية والتوسع ، التجار والطرق والبضائع، علم السكان ونهاية العالم والعلاج ، لمحة عن حياة ابن خلدون (1332 – 1406)، اشبيلية فى القرن الرابع عشر، وأخيراً الخاتمة والمصادر والمراجع.. وفى مقاله للدكتور عبد السلام الشدادى من جامعة محمد الخامس بالرباط ، حول «عالم ابن خلدون» يرى أن علمى التاريخ والاجتماع عند ابن خلدون يتمتعان بخاصيتى الكونية والعالمية.
فى البداية، تظهر لنا فكرة ابن خلدون كفكرة كونية، هذه الفكرة ترتكز على الافتراض الفلسفى حول مضمون أن الإنسان حيوان سياسى، والنظرية الحتمية الجغرافية للمناطق المناخية، متعاملة مع المجتمع البشرى (الاجتماع الإنساني) والحضارة (العمران البشرى) فى مجمليها، بتوسع من حيث انتشار المجتمعات مكانياً، ومتعمق من حيث استغراقها زمنيا. . فكانت الثقافة الإسلامية خلال القرن الرابع عشر، كانت ومازالت تعتبر أن شعوب العالم مرتبطة بنسب واحد يرجع إلى آدم عليه السلام. شكك ابن خلدون فى تلك النظرية وتساءل أنه بفرض أن الإنسانية مرجعها إلى أولاد نوح الثلاثة سام وحام ويافث فإن ذلك مجرد نقل للتقسيم الجغرافى للعالم.