الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
قصور الثقافة سيرة ومسيرة «2»

قصور الثقافة سيرة ومسيرة «2»






عندما أطلق الكاتب محمد السيد عيد نداءه الشهير، فى منتصف التسعينيات عبر جريدة «أخبار الأدب»، داعيا الأدباء للالتحاق بالعمل معه فى إدارة «الثقافة العامة» بهيئة قصور الثقافة، هل كان الرجل لا يدرك قيمة ما يفعله؟ أم كان واعيا لدور وقيمة هؤلاء الأدباء الشباب، فى النهوض بالهيئة، وضخ دماء جديدة فى شرايينها لتحريك المياه الراكدة، وزلزلة الوضع البيروقراطى المتكلس، كان الرجل يدرك جيدا قيمة ما يفعله، وكانت فكرته قائمة على تدريب هؤلاء الشباب إداريا وثقافيا ليصبحوا قيادات واعية بقيمة الجهاز ودوره، جديرين بأن يقودوا الهيئة فى السنوات المقبلة، وهل تصرف «عيد» من تلقاء نفسه دونما الرجوع إلى رئيسه المباشر وقتئذ الفنان الراحل محمد خليل، رئيس الإدارة المركزية للشؤن الثقافية، أو رئيس الهيئة الراحل حسين مهران؟، بالتأكيد عرض الأمر عليهما فجاء بمباركتهم جميعا، إيمانا منهم بقيمة ودور الثقافة الجماهيرية، وإدراكهم بأن هذا الشباب المثقف الواعى، هو القادر على توصيل رسالته السامية للجمهور المستهدف والمتعطش للثقافة فى شتى ربوع مصر.
كنت من أوائل من انتقلوا للعمل بإدارة الثقافة العامة بالهيئة، ملبيا نداء «عيد»، وقد سبق لى قبلها أن أمضيت ثلاث سنوات ببيت ثقافة «أنور المعداوى» بمطوبس، كفر الشيخ، مسؤلا عن الثقافة العامة بالبيت، ومقررا لنادى الأدب بعقد مؤقت، وفى نفس اليوم الذى تسلمت فيه العمل بالإدارة، كان يستلم معى الشاعر محمد أبو المجد، والمخرج ياسين الضوى على ما أذكر، وقد سبقنا بأيام كل من المترجمة نانسى سمير، والأدباء: نجلاء علام، وعزة أنور، والراحل سيد عبد الخالق، محمود حامد، يوسف إدوار، وكان معظمنا من الفائزين فى مسابقة هيئة قصور الثقافة المركزية، ولنا تعاملات سابقة معها، وكنا جميعا فى بدايات تحققنا الإبداعى، وتحولت الهيئة بين عشية وضحاها إلى خلية نحل، الكل يعمل بحب واخلاص وتفان فى كيفية إثبات ذاته وسط هذه الكوكبة من المبدعين والمثقفين، ورغم حب «محمد السيد عيد» لنا جميعا باعتبارنا مشروعه الذى يراهن عليه، إلا أنه كان حازما ودقيقا فى عمله الإدارى، يحاسبنا على كل صغيرة وكبيرة، بل كان يحاسبنا إذا أخطأ أحدنا فى همزة «قطع» فى خطاب إدارى، وكنا وقتها نشعر أنها قسوة منه، ولكن بعد مرور السنين أدركنا قيمة ما فعله معنا هذا الرجل، فهذا الحزم وهذه الدقة أورثتنا الالتزام والجدة فى العمل، والانضباط فى المواعيد وتحمل المسؤلية، وكان الرجل خارج الهيئة بعد انتهاء مواعيد العمل الرسمية تجده إنسان آخر، يسألك عن مشروعك الأدبى، بل ويناقشك فى القضايا الثقافية والسياسية باعتبارك زميل أديب، أذكر أننا بعد أن وضعنا -فى الإدارة- اللمسات الأخيرة لأول لائحة لنوادى الأدب، كان يريد الرجل أن يناقشها مع الأدباء فى أقاليمهم البعيدة، فأوكل لكل واحد منا إقليم ثقافى، كان من نصيبى إقليم وسط وجنوب الصعيد، وقبل أن ننطلق لمناقشة اللائحة فى الأقاليم المختلفة، دعانا فى إجتماع فى مكتب الراحل محمد خليل الذى حدثنا وقتها عن أهمية دورنا الثقافى فى تلك الفترة، وعما يجب أن نقوم به لخدمة الهيئة وخدمة الأدباء، وأعطانا دفعة معنوية كبيرة، فقال لنا: «كل واحد منكم فى إقليمه هو محمد خليل.. من يقصر معكم من المديرين فى أى موقع.. اتصلوا بى على الفور من تليفون مكتبه» رحمه الله كان يدرك جيدا أننا جميعا شباب صغير يعمل بعقد مؤقت، فمن الجائز أن يستهين بنا بعض المديرين، وقد حدث بالفعل فى بعض المواقع ما كان يتوقعه الرجل، وسوف نحكيه فى مقام آخر.
وانطلقنا نناقش اللائحة مع الأدباء فى الأقاليم المختلفة، ونأخذ ملاحظاتهم عليها، ونعد تقريرا وافيا بالزيارة ونقدمه لـ«عيد» بعد عودتنا مباشرة، وفى النهاية أعد تقريرا مجمعا بكل الملاحظات على اللائحة، وعرضت على الأمانة وأقروها، وأدخل عليها تعديلات كثيرة بعد ذلك حسب مستجدات الأمور، وسط هذه الأجواء وهذه القيادات الثقافية والإدارية تربينا وارتبطنا بالجهاز ارتباطا وثيقا.
والسؤال الذى يطرح نفسه هنا، هل نجحت تجربة «عيد» فى استقدام الأدباء للهيئة؟ الإجابة نعم، فمعظم من عملوا معه فى تلك الفترة أصبحوا بعد مرور عدة سنوات من قيادات الصف الأول والثانى فى الهيئة، وتحملوا المسؤلية كاملة فى فترة من أصعب الفترات التى مرت على مصر فى السنوات الأخيرة أثناء ثورتى 25/ 30، وما بعدها، وكانت من الفترات الزاهرة فى الهيئة، لتأتى الرياح بما لاتشتهى السفن وتتغير قيادة الهيئة، وتعصف بمشروع «عيد/ مهران» وتصبح هذه القيادات التى تربت بين جدران الهيئة قوة معطلة، وتفقد الهيئة بإبعادهم خير عقول أبنائها النيرة.