الجمعة 26 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
قدسية العدل فى ضمير القاضى

قدسية العدل فى ضمير القاضى






فى مقال الأسبوع الماضي، تناولتُ عرضًا موجزًا للتنظيم القضائى والبرلماني فى مصر، وأشرتُ إلى أنه ستتوالى أربع مقالات، لتفصيل ذلك الموجز ؛ يخصص مقالان لكل من القضاء والبرلمان بعنوان مستقل حتى لا يتسرب الملل للقارئ الكريم.. وقد اخترتُ عنوان (قدسية العدل فى ضمير القاضى) لهذا المقال لما وقر فى يقينى وترسخ فى وجدانى - عبر حياتى القضائية - بأن العدل هو أولى أولويات القاضى، ليس فى أحكامه وقراراته كقاضٍ فحسب، ولكن كذلك كمواطن يحرص على التزام ذلك العدل فى كل تفصيلات حياته اليومية.   
فالقاضى يترسم العدل منهجًا وأداءً.. شكلا وموضوعًا.. ويقضى القاضى زهاء خمسين عامًا – منذ تخرجه إلى تقاعده - فى محراب العدالة زاهدًا ناسكًا متبتلاً.. يرد إلى المظلومين حقوقهم، ويضمّد جراحهم. يعكف خلالها على دراسة آلاف القضايا وما تحويه من ملايين الأوراق. يحكم بما أفاض الله به عليه من العلوم القانونية والخبرات القضائية، لملفات القضايا بُغية الوصول إلى القول الفصل.. فيُصدِر حكمًا هو عنوان الحقيقة.. يسعى لتنفيذه صاحب الحق، ويطعن فيه المتضرر منه، وِفق منظومة متكاملة من الإجراءات والمساجلات تقدَّم فيها المستندات وتتبارى فيها المرافعات وتتناطح من خلالها الهامات.. كلُّ طرف يعتقد أنه صاحب الحق دون سِواه فيجتهد ما وسعه الجهد لتأييد وتعضيد وتوثيق رؤاه.. ومنهم - وهم كُثُر - من يتعمد إطالة أمد نظر الدعوى مستمسكًا برخصة قانونية أو سِعة صدر قضائية طالبًا آجالاً طوالاً تارة للاطلاع على أوراق الدعوى (وهو الذى أقامها)، وتارة أخرى للاستعداد للدفاع (وقد أعلن بموعد الجلسة منذ فترة كافية)، وتارة ثالثة لضمّ مفردات قضية أخرى منظورة (ليس لها أساس!)، ورابعة لسابقة الفصل فيها (ويثبت من بعد اختلاف الأطراف والموضوع والسبب)،  وخامسة لاتخاذ إجراءات الطعن بالتزوير على أحد مستنداتها (ويثبِت بعد سنوات فى أروقة الطب الشرعى صحتها!)، وسادسة وسابعة و.. و.. و.. وليس فى وِسع القاضى العادل إلا الاستجابة لهذه الطلبات (القانونية)، فالأصل فى الأشياء حُسن النية.. وكل هذا يتكبده القاضى بنفْسٍ راضيةٍ وروحٍ مرْضية.. تسعى لتطبيق موجبات القانون عساه يصل إلى حق طالما كان يؤرِّق طالبه، أو يردّ عن مظلوم فِرية خشى كثيرًا أن تلاحقه.. وطيلة حياته القضائية يجوب البلاد بطولها وعرضها.. يؤْثر على نفسه مصالح العباد.. يُفنى ذاته من أجلهم.. يفتقد الاستقرار والراحة، فهو دومًا مهمومٌ بهِم.. يتأهب فى أية لحظة لتضميد أناتهم وتخفيف صرخاتهم التى تؤرّق مضجعه آناء الليل وأطراف النهار.. فهو (طبيب النفس كما أنه مربى الخُلُق)، يتحمل عِتاب الأهل والأصدقاء عن تقصيره معهم.. يرد حاجة الأبناء فى وقت يقضيه بجوارهم.. عبئه ثقيل، وهمّه كبير.. مسعاه العدل، ورائده الحق، وغايته نصفة المظلوم.. يبتغى رضوان الله، ولا ينتظر من أحد جزاءً ولا شكورًا.. فهذا هو العدل فى ضمير القاضي.
والقاضى كمواطن، فإنه يحرص على قدسية العدل فى كافة معاملاته وتصرفاته وقراراته،لأن العدل  بنية الميزان الذى رفعه المصرى القديم فى ساحة العدل ليضعَ أعمال الإنسان فى كفةٍ والريشة التى تزن هذه الأعمال فى الكفة الأخرى.. إنه الميزان الذى أمرنا الله – سبحانه وتعالى – ألا نطغى فيه.. والطغيان يكون بإضافة الهوى والرغبة والغاية فى كفة فيزيد نصيبها وتخف الكفة الأخرى التى تبحث عن الإنصاف.. فالبنية الثلاثية لحروف ( ع / د / ل ) نسقٌ فرض نفسه على أنظمة الحياة التى تنشد العدالة من ساحة القضاء إلى ساحة الجامعة إلى ساحة السياسة إلى ساحة الرياضة... كل هذه الساحات تتطلب رجل العدالة الذى أناطه الله أمانة ناءت عن حملها الجبال الرواسى..إنه الضمير..وبلدنا هو الخيط الأبيض فى ضمير الإنسانية، هكذا قال الأجانب من علماء المصريات مثل جيمس هنرى برستيد مؤلف «فجر الضمير». ومع صوت الضمير يولد النهار لتشرق شمس الحقيقة على العالم ويتبدد الصمت بعد أن استقرت دعائم اليقين فى العقل والقلب واتخذت سبيلها فى شمس البيان.. وقبل اتخاذ القرار تمر بالعقل عشرات الأفكار وترحل النفس فى غابة كثيفة الخمائل تبحث فى ظلالها عن مستقرٍ هادئ يعينها على ترجيح كفة على أخرى بالميزان العادل، إنها قدسية العدل فى ضمير القاضى. (وللحديث بقية)
وبالقانون.. تحيا مصر،،