السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«متاح للمشاهدة».. خيال الشعر والكتابة

«متاح للمشاهدة».. خيال الشعر والكتابة






يبدو الفن اختيارا جماليا يخص صاحبه، ومن ثم تصبح الإحالات التى يصنعها الشعراء الحقيقيون إلى نصوص كتاب آخرين، تعبيرا عن رؤية للعالم، تتجادل مع متن نصوصهم، وهذا عين ما يفعله الشاعر أسامة الحداد حين يمهد لديوانه «متاح للمشاهدة»، والصادر فى القاهرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، بمقولتين دالتين لفرناندو بيسوا صاحب «اللاطمأنينة»، وجوزيه ساراماجو صاحب رواية «العمى»، كما يضع الشاعر بين يدى ديوانه أيضا مقطعا من رواية زجاج مكسور للكاتب الكونغولى الذى يكتب بالفرنسية «آلان مابانكو»، حيث يكسر الكاتب الحاجز الوهمى بينه وبين متلقيه، محتفيا بالفوضوى والعشوائي، ولأسامة حداد ديوان لافت، من قبل، اسمه «العشوائى».
يتشكل الديوان من ثلاثة أقسام مركزية «أحلام للبيع/ اعترافات/ خاتمة»، تتآزر فيما بينها لتشكل المتن الشعرى للديوان، الذى يشغل قسمه «اعترافات» الحيز الكمى الأغلب، لتصبح اعترافات الذات الشاعرة قابعة بين الاستهلال فى القسم الأول «أحلام للبيع»، والمختتم فى القسم الأخير «خاتمة»، وينفتح النص دلاليا فى مختتم الديوان، حيث يتحول الناس فى العالم الجديد إلى محض فقرات على اليوتيوب متاحة للمشاهدة، ومن ثم يتجدد الفعل الإنسانى الذى يمكن استدعاؤه دائما والذى أصبح غير قابل للموت، بل متاحا دوما للمشاهدة!
يحوى عنوان الديوان «متاح للمشاهدة» إحالة ما إلى الأفق الجديد الذى تخلقه الثقافة البصرية المحركة للعالم بالأطوار التى مرت بها من عصر الصورة إلى الوسائط الجديدة، ولذا تتواتر جملة «متاح للمشاهدة» بصيغ مختلفة طيلة الديوان حتى تصبح خاتمته الدالة، حين تصير الذات المحكى عنها شعريا فى الديوان، محض فقرة ضاحكة على اليوتيوب أفعالها متاحة دائما للمشاهدة.
يبدو عنوان القسم الأول «أحلام للبيع» عاديا ومكررا، وكان يمكن للشاعر أن يختار اقتراحات شعرية مغايرة، لا تكتفى بالنفاذ لجوهر هذا النص المدهش بل تقدم نسقا جماليا موازيا لفكرة النص الجامع الذى يقدمه، حيث تبدو الكتابة هنا ابنة للتفاعلات النصية المتعددة، هنا مثلا، فرناندو بيسوا، ونجيب محفوظ، والطيب صالح الذى يحضر جوهره «مصطفى سعيد» المتسق مع الحالة الشعرية التى يريد الكاتب التعبير عنها جماليا فى هذا المقطع، وهنا أيضا أوفيد، وهاملت، هنا الرواة المتعددون والروايات المتناثرة، فى نص تتسع فيه مساحات السرد الشعرى بتدفقاته وشحناته الفكرية والعاطفية.
فى القسم الثانى «اعترافات» تقدم النصوص الستة والعشرون عالما ينهض على الاجترار والتداعى الحر أحيانا، يوظف فيه الشاعر آلية البوح الذاتي، المتخلى عن النهنهات العاطفية، والمتخلص من حمولات فائضة عن حاجة النص جماليا، ولذا ستبدو الصلات بين النصوص قائمة، تقدم فى مجملها صورة عن الذات الشاعرة يمكن تلمس بعضا من ملامحها فى قصائد» «شبه كلاسيكي، المحاصر، ذات ليلة دخلت كتابا وانغلقت صفحاته، نعم أفكر فى ذلك، أحيانا أضحك/ ..» وغيرها.
تتسع مساحات المجاز فى هذا القسم وفى بعض قصائده من قبيل «تحولات تحدث دون ترتيب» فتحيل إلى عالم يتم اختراعه اختراعا، حيث لا يكتفى الشاعر بنسف العلاقات المستقرة بين الأشياء، وإنما يبحث عن علائق جديدة بينها: «الانتظار ليس قاسيا/ والشجر لا يفضل ركوب الطائرات/ الغيمة لا تستكين فى موقعها طويلا/ البيوت تتأوه من وقوفها سنوات/ التماثيل تفضل التنزه فى الظلام/ وغياب القصيدة لا يمنع انطلاق الموسيقى/..». وإن بدت الجمل الشعرية تعتمد الأسلوب الخبري، فى محاولة لتمرير المفارقة والتعامل معها باعتيادية وسط عالم أضحت دهشته جزءا من تكوينه المعقد.
يحضر دوستويفسكى فى «المحاصر» عبر التماس مع عنوان نصه الفذ «الجريمة والعقاب» واللعب معه فى فضاء دلالى وسيع، كما يؤنسن الشاعر الأشياء فى ديوانه، ونرى هذا فى قصيدتيه «هل الصيف مجرم حرب»، و«اللوحة».
ثمة براعة فى توظيف الاستهلال الشعرى مثلما نرى فى قصيدة «ذات ليلة دخلت كتابا وانغلقت صفحاته»، حيث يختزل الاستهلال هنا تلك المسافة النفسية بين النص والتلقي، نافذا إلى سيكولوجية المتلقى منذ الجملة الأولى «لا تعبأ بالوقت»، التى تأتى بعدها الجمل مفسرة ومعللة، لكنها التعليلات التى لا تذهب صوب علاقات السببية المألوفة، بل تنتج أسبابها الخاصة معتمدة على قدر كبير من المراوغة الفنية والمجاز. وتستمر الذات الشاعرة فى البوح أكثر فى «لا سبب لارتباكى»، وأيضا فى فى «كيف تقرأ طالعك».
ثمة شجرة دائما، ومقهى فى الديوان، وتتواتر مع الشجرة توصيفات فنتازية، فهى مصابة بالصرع مثلا، أو لا تفضل ركوب الطائرات، أما المقهى فهو خال من الزبائن، أو مدجج بالوشاية. وثمة محاولة فنية لاصطياد الظل الهارب فى قصيدتى «المحايد تقريبا»، و»عن الولد الذى اصطاد ظله بحجر».