السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«فراشات أورنينا» تسائل القبح والاستبداد الدينى

«فراشات أورنينا» تسائل القبح والاستبداد الدينى






 ثمة حس ملحمى فى رواية «فراشات أورنينا» للشاعر والروائى رشيد غمري، والصادرة فى القاهرة عن مؤسسة بتانة، فالرواية التى تتشكل من أربعة فصول سردية، تبدومثل حركات/ تنويعات موسيقية تسائل القمع باسم المقدس، وتخلق صلة بينها وبين متلقيها الذى يحيا فى اللحظة الراهنة.
 ويتنوع حضور «أورنينا» الشخصية المركزية فى النص، لتحيل إلى عالم من القسوة والعتامة، يغتال البراءة والجمال تحت مظلة من القبح والاستبداد الديني. فكهنة المعبد الشرقى يُحرمون كل شيء، ويتعاملون مع المخالفين بوصفهم مهرطقين ومجدفين، فيطاردونهم باستمرار، ومن ثم يبنى الكاتب رشيد غمرى استراتيجيات روايته من هنا، أى بدءا من اختيار تلك اللحظة المفخخة دوما بعباءة الاستبداد بتنويعاته، ومن ثم سيهرب العجوز المعدم بجسد ابنته أورنينا، حاملا إياه إلى «نوربا» رسام الموتى على الجدران والقبور، كى يخلد الابنة كما يعتقد،  لكن لا نوربا ولا والد أورنينا يشعران بالأمان، فى سياق مطارد لأبطاله، فيهرعان معا إلى شخص ثالث يقتسمان معه المأساة الجماعية، فيرتحلان إلى «أوديشو» الذى يأوى الجسد المسجى ويفتح له مقبرة جديدة، وينخرط بعدها فى إملاء رسالته على صديقه «نوربا»، ومتوجها بها إلى «أورنينا» أخرى هى ابنته المبعدة عن ذلك المكان الشبحى القامع والتى تعاون مع أمها قديما فى الفرار بها بعيدا عن أعين المتلصصين والمفتشين فى الضمائر.
لكل حكايته مع أورنينا التى تخصه إذن، حتى «نوربا» له حكاية فرعية مع أورنينا  ثالثة، ليصبح عنوان الرواية (فراشات أورنينا) منفتحا على تأويلات متعددة، بتعدد حضور أورنينا ذاتها داخل الرواية، حيث يتنوع حضورها وتتنوع دلالة هذا الحضور السردى وفقا لمسار الرواية وتحولاتها وحكاياتها المتقاطعة والمتداخلة باستمرار، فى نص يحوى هذا النفَس الملحمي، المسكون بلغة سامقة، تقترب كثيرا من الشعر فى مواضع مختلفة، وتنهض تقنيا وبنائيا على الاستخدامات الفنية للمجاز البلاغي، والمشهدية البصرية، والانتقال السلس بين مقاطع السرد ومفاصله، بحيث يمكنك الوقوف على عشرات الصور السردية التى يصنعها الكاتب هنا بحرفية شديدة.
تمثل أورنينا ابنة العجوز المعدم مركز الحكى فى الرواية، وتعد علامة على تلك الشخصيات الغائبة والمحركة للأحداث، فى الآن نفسه، فجسدها مبتدأ الرحلة القلقة التى يصنعها عجوز مطارد لاختلافه العقائدى عمن يحكمونه، وأورنينا الأخرى ابنة أوديشوهى جوهر الرسالة التى يمليها على صديقه نوربا والتى تحتل حيزا كميا من المتن السردي.
فى كل فصل سردى ثمة استهلال روائى متواتر يستأنف فيه أوديشو الحكي، فيتطهر من عذاباته، ويغتسل، بينما نوربا يجد مهمته التى يبحث عنها طيلة الرواية، حيث كان يعتقد أنه قد نذر لشيء ما لا يعرفه، ليصبح هذا الشيء هوكتابة الرسائل التى يمليها أوديشو ويوجهها إلى ابنته البعيدة أورنينا، هذه الرسائل التى ستمتلك مصيرا مجهولا، مثل كل شيء يحيط بالنص/ الحكاية.
ثمة روح سريانية موشاة بالحزن والأسى الشفيف، تجد ظلالا لها فى النص، سواء عبر أسماء الشخوص، أوتقسيمات الفصول السردية نفسها ( بيتوحاد/ بيتوتربن/ بيتوثلوثو/..).
وعلى الرغم من تلك المباعدة الفنية التى صنعها الروائى بين النص وواقعه، إلا أن ثمة تماسات كامنة فى الدلالة الكلية للسرد، فالمصادرة والاستبداد الدينى يتجليان فى الرواية بوصفهما موضوعا للمساءلة الجمالية والفكرية، وبحيث تصبح تيمة المساءلة بمثابة البنية المهمينة على  (فراشات أورنينا).
ثمة سرد توصيفى ينهض إلى جوار السرد التحليلى المهيمن على مواضع عديدة داخل الرواية، يتسم بلغة محكمة، ونافذة للروح، لغة تشف وتقول فى آن:»وهو لم ير التفاصيل؛ لضعف بصره، لكنه شاهد ظل صديقه منكبا يرسم بإخلاص وتبتل، ورأى جسد الفتاة الممدد عاريا وكأنه عناقيد من النور، تضيء أرجاء المقبرة. ميز بالكاد ركبتين مدملكتين، وقدمين صغيرتين، واستدارات مشوشة، كانت فى الماضى كمائن عجزه، ومحفزات جموحه».
يبدو المفتتح والختام جزءا أصيلا من بنية السرد، يعيشان مع الحكاية حالا من الاتصال والانفصال، يرتفعان عنها، ويعمقان إياها فى الآن نفسه.
  وبعد..  فى نص ثرى دلاليا وجماليا، يعتمد فى بنائه على آلية الرسائل،  فضلا عن الجدل بين الحكاية الإطار، والحكايات الأخرى الفرعية التى تتناسل منها، أوتتقاطع معها، فتكون هناك أكثر من أورنينا موازية، يشتركن فى القمع، أويمثلن تنويعة جديدة على اللحن الجنائزي.
 ويفسح النص أيضا الطريق أمام الوظيفة التحليلية للسرد، حيث يعلق السارد الرئيسى على الأحداث ويفككها على نحو فلسفى يتمثل الروح السريانية ليس فقط فى أسماء الشخوص، ولكن فى حركة النص ذاته وشخوصه المركزيين المفعمين بالحلم والتطهر والتضحية. وفى هذا الواقع الكابوسى الذى تحيل إليه الرواية، تبدو فراشات أورنينا غير قادرة على التحليق أوالطيران، وإن بدا الختام منفتحا على أفق طليعى ينحو من خلاله النص والواقع معا صوب استعادة المعنى، وإنسانية الإنسان.